كيف يفكر المسلم في الواقع ؟

الجمعة، 30 أكتوبر 2009









بسم الله الرحمن الرحيم

... كما هو معلوم فإن هدي الأنبياء عليهم السلام وهدي الصحابة والخلفاء الراشدين ومن شابههم ومن سلك سبيلهم في العلم والعمل، هذا الهدي يشتمل على العلم والعمل والعبادة، ويشتمل أيضا على طريقة التفكير في الأمور، ولهذا حضّ الله جل وعلا في القرآن أهل الإيمان على التفكر والتدبر في الملكوت وفيما حولهم وفي النفس، واختتمت كثير من الآيات بأن فيها آية أو آيات لقوم يتفكرون، ولقوم يعقلون.
فالعقل والفكر مهم جدا، بل إن حجج الله جل وعلا وإن بيّناته والآيات والبراهين التي أوتيها الأنبياء عليهم السلام ما ثبتت إلا بما أَعمل به أهل العقول عقولهم؛ فعرفوا أنها آية وبرهان من الله جل وعلا، كما قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنْهُ حينما قيل له في إسراء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعراجه إلى السماء ثم رجوعه في ليلة فقيل: كيف تصدّق ذلك؟ قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، يأتيه الوحي من السماء ونحن عنده. وهذا لأجل صحة المنهج في التفكير والنظر في الأمور؛ لأنه إذا صح المنهج فإنّ الشبهات تولّي ولا تأتي.
وكما هو معلوم فإنه ما من شيء في الحياة اليوم إلا وله منهج به تُعلم الطريقة الصحيحة في الوصول به إلى النتائج، سواءٌ أكان في المسائل العلمية أو المسائل العملية.
فنقول مثلا منهج الاعتقاد كذا، المنهج في العقيدة؛ بما تثبت العقيدة، وكيف نعلمها، وكيف نتلقى النصوص، وكيف نفهم ذلك.
المنهج في الفقه، جعل له العلماء أصول الفقه.
المنهج في الحديث، جعل العلماء له مصطلح الحديث.
المنهج في السيرة جعل له العلماء أصول السيرة.
في التاريخ جعلوا مصطلح التأريخ.
وفي اللغة العربية جعلوا النحو.
وفي البيان والمعاني جعلوا البلاغة.
وهكذا في التفسير جعلوا علوم القرآن. وهكذا في أمور كثيرة.
كذلك في السلوك والتعبد هناك منهج وطريقة رسمها السلف حتى يتبيّن الحق من الباطل في مسائل السلوك، ولما أتى ثلاثة نفر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألوا عن عبادته فأخبروا بها فكأنهم تقالّوها، فقال: أحدهم أما أنا فأصلي ولا أنام. وقال: الآخر فلا أصوم ولا أفطر. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فأُخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبين لهم الهدي والطريقة ومنهج التفكير في هذه الأمور هو منهج العمل فقال «أما أنا فإني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فالمنهج في العلم والمنهج في العمل مهم جدا لسلوك الصراط المستقيم، وفائدة هذا المنهج أن المنهج يعصم من أن يكون للمرء المسلم في كل يوم طريقة وحكم على الأشياء، فإذا كان المنهج مستقيما والتفكير صحيحا وفق الشرع ووفق الكتاب والسنة وهدي السلف وما نص عليه الأئمة من أهل العلم الذين شهدت الأمة لهم بالإمامة فإنه يُعصم المرء من الخطأ.
فإذا كان عرّف أهل العلم أصول الفقه وأصول الحديث وأصول التفسير والنحو وهكذا بأن مجمل هذه الأمور التي هي أمور المنهج والأصول أنها قواعد قوانين وضوابط تعصم من الخطأ في العلم.
فكذلك الأمور التي تقع في الأمة وما يحصل في الحياة اليومية كيف يتعامل المسلم مع هذا الواقع، هذا في الحقيقة يحتاج إلى منهج وإلى طريقة، لذلك عنوان هذه المحاضرة أُختير بأن يكون:
منهج التفكير في الواقع
أو
كيف يفكر المسلم في الواقع
وهذه هي المعضلة اليوم، فنجد أن كثيرين من المسلمين لديهم نظر في الواقع؛ إما في الواقع السياسي، أو في الواقع العلمي، أو في الكلام على الدول، أو في الكلام على العلماء أو في الكلام على الدعوات أو الحركات الإسلامية أو على الشباب أو على الكبار أو على المؤسسات الخيرية، أو في الكلام على طريقة النجاة في الأمة، وكيف تخرج الأمة من هذا المأزق الذي تعيشه، وكيف وكيف وكيف في أشياء كثيرة.
لكن نجد أن كثيرين لهم في كل حال موقف، ولهم في كل قضية رأي، وهذا خلاف الأصول، الأصول الشرعية تقضي بأن يكون المنهج مستقًى في التفكير من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ومستقى من المنهج العام الذي سلكه علماء الأمة وحكماؤها؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بالسنة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، وقال «وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» ونحو ذلك.
فإذن هذه الأمة بحاجة إلى منهج في التفكير في الواقع، مهما تغير الواقع، ومهما تغيرت الأحوال، قبل مائة سنة، قبل خمسمائة سنة، قبل ألف سنة، واليوم وغدا، لابد من صناعة منهجٍ في التفكير.
هذه المحاضرة لا أدعي أني سأضع كل معالم هذا المنهج؛ لأن هذا يحتاج إلى تأصيل هذا العلم وتدوينه، وإلى أن ينبري له المجموعة الكبيرة من العلماء والدعاة وطلبة العلم وأهل الحكمة والعقل، حتى يكون مؤصَّلا لدينا في تعليمنا وفي جامعاتنا وفي التعليم العام وفي منهج دعاتنا وفي المساجد ولدى الشباب ولدى الناس إلى آخره، حتى يكون المنهج مؤصلا لطريقة في التفكير سليمة لكي يكون المرء على سلامة في دينه.
ولذلك أهم ما يهتم به الواحد منا كيف ينجو؟
ليس العجب ممن هلك كيف هلك؛ ولكن العجب -كما قال السلف- ممن نجا كيف نجا.
لما استعرض بعض علماء السلف سبل الهلاك وسبل الغواية، قال: ليس ممن هلك كيف هلك؛ لأن سبل الشيطان كثيرة، كثيرة جدا، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا.
ومعالم النجاة أولها وأعظمها توفيق الله جل وعلا وإعانته وتسديده، هذا هو العصمة، ثم أن يأتي المرء بالأسباب، ومنها ملازمة الطريقة المثلى؛ طريقة السلف الذين شهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بالسلامة فيما هم عليه، وأنهم خير هذه الأمة «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، فإذن نحن بحاجة إلى هذا المنهج؛ ولكن هذه المحاضرة لبيان بعض المعالم المتعلقة بهذا المنهج.
وهي تحتاج إلى مزيد بسط وتحرير وتفصيل ودراسة مني ومن المختصين في ذلك حتى يُوضع منهج للتفكير والنظر في الأمة في هذه الأحوال والوقائع وما شابهها.
ما فائدة وضع المنهج؟
أولا المقصود السلامة والنجاة وأن نزدلف إلى الجنة ونبتعد من النار ?فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ?[آل عمران:185]، الحاجة للمنهج حتى نزدلف إلى مرضاة الله جل وعلا.
ثانيا الحاجة للمنهج في أن يكون موقف المسلم غير مبني على هوى، غير مبني على تأثيرات عاطفية وتأثيرات غير شرعية، وإنما لهم في كل يوم رأي وموقف ونظر.
الثالث أن يكون هناك وحدة في المواقف والرأي والنظر في الأمور، فإذا كان هناك تغير في المواقف مع كل شيء جديد ومع كل حدث، فإن هذا يعني أنه ليس لدينا طريقة مستقاة من الدين نثبت عليها، والثبات من معالم النجاة، الثبات على النّهج الصحيح هذا من معالم النجاة، أما الذي له كل يوم منهج وله كل يوم طريقة ويتقلب من الأمور ومع الأحوال كيفما تقلّبت، فإنه حينئذ لا يرجع إلى ركن وثيق، ولذلك أهل العلم من سماتهم أنهم لجؤوا بالعلم إلى ركن وثيق فإنهم مهما تغيرت الأمور فلديهم الركن الوثيق الذي يرجعون إليه.
من فوائد وجود المنهج أن يكون هناك تقييم للأمور سليم، الناس دائما يقيّمون الأمور: هذا جيد، هذا غير جيد، هذا باطل، هذا خبيث، هذا طيّب، فكل يوم لهم كلام، ولهم طريقة، وكل أحد يعتقد أن ما يأتي به هو الصواب، فوجود المنهج يقرّب الآراء، ويكون هناك تقييم للأمور صحيح.
أيضا وجود المنهج يعصم من التصورات الخاطئة في الأمور، حتى لا يكون هناك زلل في أن ينسب للشريعة ما لا ليس منها، ولذلك نجد اليوم الكثير يقول هذا هو الإسلام، الإسلام يقول كذا، الإسلام يدعو إلى كذا، وهناك أقوال كثيرة مختلفة، فهل هذا هو الإسلام، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإسلام؟
فلابد إذن من طريقة في التفكير تعصم المرء في مثل هذه الأوضاع المتغيرة.
أيضا من فوائد وجود المنهج التفريق بين الحقيقة والباطل، وبين الحقيقة وضدها، لأن هدف المسلم ما هو؟ الحق، هدفنا دائما هو الحق، وأن ندعوا إلى الحق ونستمسك بالحق، كيف يعرف ذلك؟ له أساليبه، ومنها أن يكون منهج التفكير صوابا صحيحا.


هناك معالم عامة تؤثر في التفكير الصحيح


إذا كان المنهج المقصود منه التفكير الصحيح، فإن المعالم التي تجعل هذا التفكير صحيحا متمثلة في عدة أمور:
الأمر الأول هو الحذر من الفتن، فإن الفتنة في القول أو في العمل، هذه يجب أن نحذرها سواء على أنفسنا أو في مجتمعنا، ولذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحّ عنه كما في البخاري أنه قال «ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» والفتنة مأمور أن نبتعد عنها وعن أسبابها.
فإذن من المؤثرات أن يكون من منهجنا أن نبتعد عن الفتن ونسعى في السلامة، فكل شيء يؤدي إلى فتنة واختلاف في القول والعمل وحدوث فتنة في المسلمين فهذا من الأساسيات أن نبتعد عنه حتى نصل إلى التفكير الصحيح.
أما إذا أتى أحد وقال: لا يهمني، المهم أني أصل إلى الأمر سواء حدث فتنة أو ما حدث فتنة، الصحابة تقاتلوا وحصل ذبح وحصل قتال ونحو ذلك.
فهنا بدأ الهز في التفكير، وحينئذ لا تستغرب أن يكون بعدها نتائج عنده في التفكير أخرى.
فإذن الوقاية من الفتن هذا منهج، ولذلك كان من سمة الصحابة، حتى لما وقع الاختلاف أنهم حذّروا وابتعدوا عن الفتن وما يؤدي إليها.
الأمر الثاني أن نحسن الظن بالله جل وعلا وأن نتفاءل فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صح عنه أنه قال «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى» والتفاؤل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب الفأل.
فإذن هناك معلم من معالم الوصول إلى التفكير الصحيح، أن لا تنظر إلى الأمور بيأس، بقنوت، بنظرة -كما يقولون- سلبية سوداوية، إنما تنظر بتفاؤل؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قال العلماء: معنى قوله (بدأ غريبا وسيعود غريبا) أنه كما أنه في أول البعثة في أول الرسالة بدأ غريبا ثم قوي وانتشر، فكذلك سيعود غريبا ثم يقوى وينتشر، وهذا يعطيك الفأل وحسن الظن، وهذا مصداقه في قول الله جل وعلا ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، من الذي شهد بهذه الشهادة؟ الله جل وعلا.
فإذن يكون من معالم تفكيرك فيما أنت فيه وفي المستقبل أنك تكون متفائلا محسّنا الظن بالله جل وعلا كما وعد الله جل وعلا أنه سينشر هذا الدين، وقد صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «لا تقوم الساعة حتى لا يكون بيت من مدر ولا وبر إلا أدخله الله في هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله»، وهذا يعطينا انشراح الصدر والتفاؤل، فحينئذ يكون التعامل في الحياة الدنيا والعمل والدعوة والمواقف مبنية على الفأل لا على القنوت ولا على اليأس ?وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ?[الحجر:56].
فإذن من معالم الضلال والبعد الاهتداء للطريق الصحيح أن يكون هناك يأس وقنوط؛ بل لا بد أن نكون كما أمر الله جل وعلا وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكون متفائلين، نحسن الظن بالله جل وعلا، ونعلم أن وعد الله حق، وحينئذ تكون موقفنا وتفكيراتنا فيها الإيجابية وفيها العمل للمستقبل بالعمل الصحيح المؤثر.
من معالم التفكير الصحيح أنّ المسلمين فيهم حسنات وفيهم سيئات، سواء أكانوا عامة أم خاصّة، سواء أكانوا ولاة أم علماء أم طلبة علم أم دعاة أم من عامة المسلمين، كلّ فيه حسنة وفيه سيئة، لابد من موجود هذا وهذا، فهل أحد يسلم من السيئات؟ لا، وهل هناك مسلم لا يكون عنده حسنات؟ ليس كذلك.
فإذن من منهجنا في التفكير أن نمتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «من قال فسد الناس فهو أفسَدَهم» وفي ضبط «فهو أفسَدُهم»، (من قال فسد الناس) هؤلاء الناس سيئين لا يهمونك، يقول هو الذي أفسدَهم لماذا؟ لأنه مبني على القاعدة التي سأذكرها لك.
إذن إذا كان هناك وجود للحسنات وجود للسيئات، كيف نفكر؟ نفكر بأن الحسنات ننشرها ونضخمها؛ لأن الناس يقتدون ويتأثرون بذلك، والسيئات نكتمها ولا نظهرها.
الآن من سمة الناس أو من سمة بعض الناس أنهم إذا سمعوا بأي خبر سيء إما معصية أو قصور مقصر أخذوا يتحدثون به، هذا له أثر سلبي كبير جدا حتى على الطاعة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن الناس يتساهلون في المعصية، ويقل عندهم الرغبة في الخير، ويتصورون أن الشر كثير، وهذا ليس بصحيح. (1)
فإذا مثلا جاء أحد وقال: والله انتشر الفساد وصار فيه كذا وكذا. وجاء النظر فيه وفق التقييم الصحيح وجدت أنه لا يتعدى خمس في المائة، عشر في المائة، خمسة عشر في المائة، في مجتمعنا مثلا، لكن هل هذا صار هو الغالب؟ لا.
لكن إذا كان المنهج غير صحيح، فإنه حينئذ تنظر السلبيات، وتضخم وللحسنات فتُضْعف، وبالتالي يكثر الفساد شيئا فشيئا.
والواجب أن يكون منهجنا في التفكير قائما على إبراز الحسنات، وعلى ذِكرها، وأن نحذر من فسد الناس، أو الأمور صارت فاسدة، أو البلاء في كذا، العلماء فيهم، والدولة فيها، الناس فيهم، فسد، بيت فلان فيه كذا، وهؤلاء عملوا كذا، هذا ينشر الفساد شيئا فشيئا.
أما إذا تعاونتَ على البر والتقوى، فأكثرت من الحسنات وجعلت السيئات تقل حتى بالذِّكر، فإنه حينئذ يزيد الخير.
والحظ هنا أن من مظاهر زيادة السوء والفساد في الناس التحدث به، يتحدّث به، ربما يتحدث المرء عند أولاده، فلانة فيها كذا وهذه عملت كذا، وهذا فلان عمل كذا، يغريهم ويسهل عليهم كثيرا من الأمور.
فإذن من منهجنا في التفكير الصحيح أن نُظهر الحسنات، ونبرزها، ونكثر من الحديث عنها لأنها تشرح النفس وترغب وتجعل الناس يسيرون فيها، ونخفي السيئات ونُخفي آثارها؛ لكن هذا لا يعني أن لا نتعامل مع السوء وفق القواعد الشرعية، إذا كان مقتضى النصيحة فننصح، مقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وفق الشريعة، مقتضى عمل ما نعمل به.
إذن فهناك نظر صحيح بالنظر إلى الحسنات وإلى السيئات.
الرابع عدم المبالغات.
حتى نفكر تفكير صحيح في الأمور نحذر من شيء ألا وهو المبالغة، وأنا جرّبت يمكن الكثير منكم جرّب، أحاديث الناس كثير منها مبالغات: إما مبالغات في المدح أو مبالغات في الذم.
يأتوا إذا أعجبوا بإنسان ويعلوه في السماء وإذا ما أعجبهم وضع فلان حطوا فيه إلى أن يكون في الأرض، وهذا خلاف العدل الواجب، الواجب أن نكون معتدلين أهل عدل، الله جل وعلا يقول ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?[الرحمن:9]، ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?، أن نقيم الوزن بالقسط بالعدل، ما نجعل هناك مبالغة لا في مدح ولا في ذم، ولذلك [القسط القسط] تبلغوا، الوسطية الاعتداء تجعلنا نبتعد عن طرف الغلو وطرف الجفاء، وهذا هو الذي ينتج نوع من التفكير سليم به تتعامل مع القضايا بقوة.
أنت تنظر الآن المبالغات كثيرة مبالغات في القنوات الفضائية، مبالغات في الصحف، مبالغات في أخبار الناس، فلان فعل كذا وفلان فعل كذا، حتى في الحضور نأتي مثلا كم حضر عند فلان؟ يمكن حضر عشرين ألف وما هو إلا ألفين، المسجد أصلا ما يسع إلا ألفين شخص، كيف صاروا عشرين ألف، فلان ما حضروا له إلا خمسة، والذي حضر خمسين أو ستين، فهناك نظرة مبالغة في الأمور في هذا الجانب أو في هذا الجانب توقع في الخطأ.
كذلك الآن المبالغة من الجهات الإعلامية، القنوات الفضائية تعطيك مبالغات تؤثر عليك في منهج التفكير، إما مبالغات بالأخبار أو مبالغات بالصورة، أو مبالغات بالتأثيرات الصوتية والمرئية، تعطيك إحساسا بأن الشيء كبير جدا، ما يسلم من هذا الإحساس أحد؛ ولكن العاقل يجب أن يفكر كيف يتعامل مع هذه المبالغات، المبالغة لا يسوغ الاستسلام لها؛ لأنها تضل في جانب التفكير، فإذا كان الإنسان يذهب في الأمور كلها في المبالغات فمعنى ذلك أنه ما أخذ بقول الله جل وعلا ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?[الرحمن:9]، وقول الله جل وعلا ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى?[الأنعام:152]، ولا بقوله جل وعلا ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:9].
فإذن الحذر من المبالغات، والنظر السليم في المعلومة الصحيحة، يأتيك شيء لا تصدّقُه لا تحدثْ به، لهذا ثبت في مقدمة صحيح مسلم رحمه الله تعالى أنه قال «من حدّث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبِين»، (من حدث بكل ما سمع) تحدث بكل ما سمعت فأنت أحد الكاذبِين، لماذا؟ لأنه لابد من مبالغات في حديث الناس، ولابد فيها صدق وفيها كذب، فإذا حدثت بكل شيء فأنت أحد الذين شاركوا في نشر هذه الأمور.
الخامس من معالم التفكير الصحيح ومنهج التفكير السليم الشرعي السلفي، الذي أصله علماء السلف وأئمتهم في مجمل كلامهم، أن يكون المسلم محبا للخير للمسلمين وكارها للشر لهم.
المؤمنون والمسلمون بينهم محبة في الله ووَلاية في الله قال جل وعلا?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ?[الحجرات:10]، وقال ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?[التوبة:71]، يعني بعضهم يحب بعضا وبعضهم ينصر بعضا.
أن تحب الخير للمسلمين هذا يعطيك هدوء وتفكير صحيح في الاتجاه وفي معالجة القضايا.
بعض الناس يأتي ويقول: هؤلاء ما يأتي منهم إلا الشر وهؤلاء فيهم البلاء عملوا كذا. لكن الأصل محبة الخير للمسلمين، فمن كان منهم مهتديا على الطريق الصحيح سليما فإنك تعضده وتعينه؛ لأنه يمشي على وفق المنهج الصحيح، منهج السلف الصالح، منهج العلماء الربانيين الراسخين في العلم، ومن كان له غلط فيناصح يبين له خطؤه، لا يتبرأ منه؛ لأن المحبة بقدر ما فيه من الإيمان.
وهكذا فكلّ مؤمن له محبة وله نصرة بقدر ما فيه، حتى الظالم من المسلمين فتنصره بحبسه عن الظلم «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» قال: كيف أنصره ظالما؟ قال «أن تحجزه عن الظلم» إذا رفضت بقوة ووقفته عند حده -مثل ما يقولون- هل هذا محبة الشر له أو محبة الخير له؟ محبة الخير له، لذلك جاء في الحديث «عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل» يقاد للجنة بإيش؟ بحبسه، يقاد إلى الجنة بسجنه لأنه يحصل له من الخير ما لا يحصل له بخلاف ذلك، فإذن محبة الخير للمسلمين تعطيك انشراح في النفس وتعطيك عاطفة صحيحة؛ ولكن بانضباط لأن هذه المحبة وفق النقاط التي ذكرنا.
السادس من المعالم العامة للمؤثرات الصحيحة في التفكير: أن يكون هناك غيرة لدى المسلم منضبطة بضوابط الشرع.
المسلم يحتاج إلى ثبات على الحق، ثبات على الهدى، ويحتاج إلى أن يكون في نفسه حب لمناصرة الحق والدعوة إليه، هذه لا تكون إلا بوجود الغيرة على الإسلام، الغيرة على المسلمين، الغيرة على حرمات الله، هذه الغيرة تجعلك تفكر بالتفكير الصحيح بحيث إنه لا يحملك الذي ذكرناه في عدم الاهتمام بالأمور وعدم النظر يكون كل شيء دع الأمور ولا تهتم بشيء؛ بل يكون هناك غيرة وتحسّس لواقع المسلمين لما عليه الأمة لما فيه المسلمون لمن أحوال، يكون عندك غيرة على حرمات الله، غيرة على المسلمين في تعليمهم أو في نصرتهم أو في تقويتهم.
لكن هذه الغيرة تكون منضبطة بضوابط الشرع؛ لأن الغيرة تحمل على الثبات وتعين على سبوك الطريق المستقيم وعدم التأثر بالشيطان، وكما قال اين القيم رحمه الله في بعض كتبه أظن مدارج السالكين يقول: إن من أعظم أسباب رد كيد الشيطان الغيرة في الله. الله جل وعلا يغار، ونحن نغار أيضا، كما جاء في الحديث «إن الله يغار» والمؤمن يغار على حرمات الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القدرة في ذلك.
لكن هذه الغيرة قد تحمل على أن يكون الاتجاه إلى أمور منكرة، إما إلى جهاد بطريقة غير صحيحة، أو إلى نهي عن منكر بطريقة غير شرعية، أو إلى سفك للدماء، أو إلى إتلاف للأموال أو إلى تناول ... أو أن تكون الغيرة مسلوبة بحيث لا يهمه لا يعرف معروفا وينكر منكرا.
فإذا كانت منضبطة بضوابط الشرع على أساس العلم والصبر، فإنه لا بد من علم بالأحكام الشرعية حتى تعرف أن غيرتك محمودة، ثم لابد من الصبر الذي يحمل على عدم الخروج عن مقتضى الغيرة الشرعية الصحيحة.
نوح عليه السلام كم مكث في قومه؟ ألف سنة إلا خمسين عاما قال جل وعلا في سورة العنكبوت ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ?[العنكبوت:14-15].
هنا سؤال: لماذا جاءت قصة نوح في آيتين في قصة العنكبوت ليش؟ قصص الأنبياء لا ترد في سورة إلا ولها هدف، تجد في بعض السور قصة نبي من الأنبياء تأخذ أربعين آية، خمسين آية، ستين آية، أو أكثر؛ بل هناك سورة خاصة ليوسف عليه السلام، سورة نوح، سورة هود وإن كان فيها قصص من الرسل؛ لكن سورة كاملة لقصة يوسف، سورة كاملة بقصة نوح، وهكذا.
فلماذا أحيانا تأتي مختصرة وأحيانا تأتي مطولة؟ هذه فائدة عرضية في المحاضرة لأجل مناسبة ذكر قصة نوح عليه السلام.
جاءت في سورة العنكبوت في آيتين؛ لأن المقصود من ذكرها في هاتين الآيتين هو ذكر الزمن فقط ?فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا? ثم ذكر النتيجة ?فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ?، القصة بتفاصيلها لا تهم في هذا الموضع لماذا؟ لأن سورة العنكبوت الهدف منها والمقصد هو التحذير من الفتنة، لذلك في أولها ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، ?وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? سورة في كل ما فيها يتحدث عن الفتنة الآية الآن قصة نوح عليه السلام في آيتين ما الفتنة؟ أين المخرج من الفتنة الذي دلت عليه هذه الآية؟ فتنة بالزمن، ما صار شيء، عشر سنين ما صار شيء، عشرين سنة ما صار شيء، ثلاثين سنة ما صار شيء، ما نفعت الدعوة، ولا نفع كذا، لابد من الجهاد المسلح، نوح عليه السلام كم مكث؟ ألف سنة إلا خمسين عاما، ما النتيجة؟ النتيجة أنه دعا الله جل وعلا فأنزل النصر عليه، لكن كم المدة؟ فهذا يعطيك الحذر من الافتتان بالزمن وأن تقول عملنا وعملنا ما نفع، هؤلاء عملوا لابد من كذا وكذا، دون طريقة شرعية صحيحة.
فإذن من نظر إلى الأمور بدون نظر علم وصبر فإنه خالف منهج أولي العزم من الرسل ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ?[الأحقاف:35]، وقال في الآية الأخرى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60].
المؤثرات السلبية في التفكير السليم
أولا مما يؤثر سلبا على التفكير الصحيح ويؤدي إلى التفكير الخاطئ: أن يحرم العبد التوفيق من الله جل وعلا وأن يبتلى بالخذلان. وما نحن لو لم يأخذ الله جل وعلا بأيدينا، هل نحن الذين هدينا أنفسنا؟ لا، ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، ?بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?[الحجرات:17]، ما هي المنّة؟ المنة الإعطاء من دون موجب استحقاق، أعطيتك شيء وأنت ما فيه شيء بيني وبينك ما تستحقه هذا من كما قالت بثينة:
ما ضرك لو مننت وربما .......................
لنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب منه يعفو عن أخيها:
ما ضرّك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيض المحنق
يعني أعطى وعفا من دون استحقاق، الله جل وعلا يمنّ علينا.
فإذن من معالم الخلل الكبير في التفكير أن يخذلك الله جل وعلا والعياذ بالله ويحرمك التوفيق.
التوفيق ما هو؟ إعانة الله جل وعلا في أموره.
الخذلان أن يخذل الله جل وعلا هذه الإعانة في أمورك وأن تترك ونفسك.
فإذا تُركت ونفسك وقع الزلل، لذلك في الحديث «اللهم لا تكلني لنفسي طرفة عين» (لا تكلني) لأنك لو وُكلت لنفسك طرفة عين زلت القدم والعياذ بالله.
إذا كان كذلك فإن حرم العبد التوفيق وخذل، لا يحرم العبد التوفيق ويخذل إلا بأسباب منه ? مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ?[النساء:79]، ومن السيئات أن تخذل ومنه ضعف العبادة ضعف والإقبال على الله جل وعلا، ضعف الاستمساك بالسنة، ضعف الاستمساك بالعلم، ضعف الاستمساك بهدي السلف الصالح أن يكون الدين عرضة للخصومات وعرضة للقيل والقال قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
والله الناس يشوفون الذين في القنوات الفضائية وهذا مع هذا، وهذا يطاق هذا، وهذا يرمي هذا يستمع بإنصات يحصل عنده تنقل وتقلب، لماذا؟ لأنك ليس عندك علم تحمي نفسك فيه وهؤلاء يأتون بشبه قيل وقال فلابد أن يقع، من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
هنا لابد من الاستمساك كما ذكرت لك بهذه الطريقة، والحذر من أسباب خذلان الله جل وعلا للعبد الإنابة إلى الله جل وعلا كثرة الدعاء، الإقبال على الله جل وعلا، البعد عن الفتن، طلب السلامة.
الأمور تشتبه عليك إذا اشتبه عليك الأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دلك على المخرج «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه» ما أدري، والله أنا ما أعرف هذا، لا تحتار، أترك الموضوع كله برمته، ثم ابحث عن الصواب؛ لكن هناك من يعرف الصواب ويعرف الغلط؛ لكن أنت اشتبه عليك فاترك، هذا هو طريق النجاة.
فإذن لابد من الإقبال على الله جل وعلا حتى يكون التفكير سليما وأن نحذر من الخذلان؛ لأن هذا له أثر كبير في التفكير الخاطئ.
من المؤثرات السلبية على التفكير السليم أو أشياء تجعل منهج التفكير: خاطئا تصديق الشائعات.
الناس مغرمون بالشائعات فإذا سمعوا خير ما أحد نشره؛ لكن إذا سمعوا شيء فيه ما فيه نشروه، الشائعات هذه كثيرة الانتشار وأكثر الشائعات لا صحة لها، والصحيح منها مبالغ فيه كما ذكرنا.
الشائعة ما حكمها محاضرات كثيرة هناك كتب ورسائل في الشائعات معروفة يمكن أن ترجعوا إليها؛ لكن من التأثيرات السَّلبية على التفكير الصحيح تصديق الشائعات، كما قال الله جل وعلا ?وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ?[النساء:82] يعني شائعة، ينشر الشائعات وهذا لا يصح، «من حدّث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبِين» تنشر الشائعات هذا يؤثر على تفكيرك، ثم بعد ذلك أنت تنشرها تصدقها، يعني مثل ما قال بعضهم يكذب الكذبة ثم إذا انتشرت رجعت إليه قال يمكن أن تكون صحيحة وهو أصلا الذي كذبها.
يقول أحدهم أظنه هتلر في ألمانيا يقول لوزير إعلامه يقول: اكذب الكذبة عشر مرات، رددها، اكذب الكذبة إعلامية عشر مرات فإنها ستصبح حقيقة، حتى أنا سأصدقها. وهذا صحيح في طبع الإنسان.
ويقولون أشعب قال للناس المكان الفلاني فيه دعوة شافهم كلهم سارعوا وكلهم راحوا فيه عزيمة وهو يحب أن يأكل مجانا، راح شاف الناس يروحون يروحون وهو معلّم عشرة لكن جاءت الشائعة قال والله يمكن صحيحة أروح أنا.
هذا تأثير الشائعة حتى على النفس ولذلك من الخلل في التفكير أن تصدق الشائعات، شرعا لا يجوز ولابد من التثبت ?إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا?[الحجرات:6] وفي القراءة الأخرى ?فَتَثَبَّتُوا?، البيان ?فَتَبَيَّنُوا?يعني أطلب البيان أطلب الحجة أطلب الدليل.
والآن يلفق أشياء على الناس لا حصر لها وكذب صراح.
من معالم الغلط في التفكير تحذر منه إذا أردت التفكير الصحيح، تحذر من شيء: وهو تأثير الشعارات والألفاظ الرنانة الطنانة كما يقال.
يقول بعض الفلاسفة: كم نفذت أمور هي من الخُرْقِ بما كان. يعني نفذت في الناس ومشت في الناس وآمنوا بها وصدقوها وعملوا بها أو عمل بها طائفة.
كم نفذت أمور هي من الخرق بما كان -يعني سيئة- في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
يأتي المفكر أو صاحب الدعوة أو صاحب السياسة أو صاحب الحزب أو إلى آخره فيريد التأثير عن أشياء، فيأتي بلفظ جميل حتى ينخدعوا باللفظ ولا ينتبهوا إلى ما تحته.
فإذن من أسباب التفكير الخاطئ الانخداع بالشعارات، والمؤمن العبرة عنده بحقائق الأمور لا بالشعارات، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماذا قال لنا في آخر الزمان؟ قال «يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» هل هذا الأمر للخمر فقط؟ ظاهر الحديث للخمر؛ لكن لماذا يخصّون الخمر بأنه يسمونها بغير اسمها، عندهم أشياء ثانية سموها بغير اسمها حتى تكون حلالا، كذلك سيسمون هذا وهذا وأشياء كثيرة.
اليوم هناك أشياء كثيرة المراد منها خلاف الشعار؛ لكن الشعار يأتي حتى يمشي ويروج، مثالها مثلا: الإصلاح، النهوض بالأمة، الوهابية، الجهاد، إصلاح المناهج، قضايا كثيرة، يقول ضبط أو المؤسسات الخيرية الحذر من تمول الإرهاب.
ألفاظ ظاهرها جميل، الإصلاح مطلوب، محاربة الفساد سواء أكان في الأمور السياسية أوفي الأمور الدعوية أو في الأمور العلمية أو في أي مجال من المجالات، الإصلاح مطلوب ?إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ?[هود:88]؛ لكن ما داخل هذه الكلمة؟ ما تحتها؟ الإصلاح كيف؟ تصلحون ماذا؟ بأي شيء؟ لو أتى البرنامج، ماذا تريدون؟ هنا يبين الطريق من الطريق، والناس ينخدعون باللفظ العام ويؤمنون به ويدافعون عنه والذي أورد هذه الألفاظ يريد منها أشياء غير ظاهرها.
إيش مثلنا؟ يقول لك إصلاح المناهج، إصلاح المناهج طيب، كون أنه مناهج تحتاج إلى تعديل، هذا أمر مطلوب، ما فيه شك أن المناهج التي ندرسها اليوم أو يدرسها طلابنا سواء في التعليم العام أو في الجامعات غير التي درست قبل ثلاثين سنة، هل معناه أن هذه أحسن من التي قبل ثلاثين سنة أو التي في ثلاثين سنة أحسن والتي قبل مائة سنة والتي قبل ألف سنة؟
مفهوم إصلاح المناهج مفهوم طيب في ظاهره، تعديلها؛ لكن ما داخله؟ هنا يأتي الكلام.
هناك دعوات مناهج المسلمين تدعو إلى الإرهاب، مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية فيها كذا، ها دخلنا إلى في أن ما نحن عليه من الدين والصلاح والمناهج الشرعية إلى آخره أنن فيها أشياء يراد أن تُضعف أو أن تجتنب أو أنها بمجملتها يكون فيها كذا وكذا، إذن يكون فيه حذر.
مثل الجهاد، الجهاد شرعي مطلوب ومأمور به وسنام الإسلام الجهاد؛ لكن:
دخل في الجهاد قتل النفس.
دخل في الجهاد قتل الأطفال.
دخل في الجهاد قتل النساء.
دخل في الجهاد قتل المعصومين معصومي الدم.
دخل في الجهاد ما يضر بالأمة بكل أنواعها.
إذن هذا سُمي جهادا وحقيقته ليس كذلك، ليش؟ حتى من رغِب في الجهاد يدخل فيه منخدعا به.
مثل المؤسسات الخيرية، الهجمة عليها شديدة، كيف نفكر، هذه فيها دعم للإرهاب، طيب فيها خلل مالي، فيها كذا وكذا، طيب الخلل يصلح؛ لكن كم نسبة الخلل فيها واحد في المائة اثنين في المائة، كم نسبة الغلط، لكن كم نسبة الغلط؟ ما من عمل بشري إلا وفيه نسبة من الغلط.
فإذن اللفظ هنا يأتي بعض الناس أعوذ بالله هؤلاء يعملون كذا، والمؤسسات الخيرية فيها، ويطنطن ويأتي أيضا كلام في الصحف وكلام في وسائل وكأن الشر هنا، والحقيقة أن هذه الشعارات؛ لكن تحتها أمور سيئة.
نعم المؤمن الحكمة ضالته أين وجها فهو أحق بها، إذا كان فيه إصلاح في المؤسسات الخيرية مطلوب، إعادة تنظيمها مطلوب، ضبطها ماليا وضبطها إداريا وهيكلتها هذا مطلوب؛ لكن ليس معنى ذلك الاتهام، ليس معنى ذلك أننا نصدق ما يقال، فرق بين هذا وهذا.
فالمؤسسات تعمل عملا عظيما في الأمة، هذه الأمثلة لذلك.
من المؤثرات السلبية في منهج التفكير: الأخذ بالأشد والأقوى من الأقوال والأعمال على أنه الصواب والحق.
بعض الناس يفكر كيف أن الأقوى دائما من الأقوال هذا القوي، هذا الذي فعل، هذا الرجل، هذا الشجاع، أنه دائما هو الصواب، وليس كذلك.
القوة في موضعها محمودة والحكمة أو وضع الأمور في موضعها محمود بل تكون الحكمة في القوة والحكمة أحيانا في تمرير الأمور.
لما أتى عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية، قال عمر: يا رسول الله على ما نقبل الدنية في ديننا ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ هنا القوة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم حتى إن في الشروط فيها -كما قال عمر- دنية لكن المصلحة للأمة فيما أراده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه الأدرى بالمصالح حتى عمر على جلالة قدره وهو ثاني رجل في الأمة أبو بكر ثم عمر لكنه هنا نظر نظرا أراد الأقوى؛ لكن الحكمة كانت في خلاف ذلك.
كذلك لما جاءت حرب المرتدين الأمر انعكس، لما جاءت حروب الردة كان الأقوى من أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وكان الذي يريد اللين من؟ عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عمر قال: كيف تقاتلهم؟ فآل الأمر إلى قول عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ فلما رأيت أبا بكر انشر صدره للقتال علمت أنه الحق.
فإذن الإنسان قد يعتريه في مواقف قوة، هنا كيف تفكر؟ ليس الصواب في المنهج في التفكير أن القوة والشدة هي الصواب؛ بل في كل موضع يقول: هذا يعرف العقلاء الحكماء، يعرفه أهل الأمر أولي الأمر العلماء الراسخون، الذين مرت بهم تجارب إلى آخره.
فإذن المسألة لا تأخذ دائما بالشد من الفتاوى من الفتاوى أنها الصحيحة، أو أن الموقف القوي على أنه هو الصحيح، قد يكون صحيحا وقد يكون الحكمة بخلافه أو الصواب بخلافه، في الفتوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
تبين بهذا هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، إذا كان الأمر واضحا أنه إثما هذا يستثنى، إذا كان الأمر واضح أنه إثم هذا يستثنى؛ لكن إذا اختار بين أمرين يختار اليسر لأن هذا الدين يسر.
فإذن من المؤثرات على المنهج الصحيح في التفكير أن يأخذ المسلم بالأشد والأقوى والأغلظ على أن هذا هو الحق، ليس كذلك، الدين يسر «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» قد تكون القوة في الموقف مطلوبة كما ذكرنا وقد يكون اللين مطلوبا وكل في موضعه يحمد إذا تولاه من يحسن الأمر.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه الرشد والسداد، واجعلنا معهم من المتعاونين على البر والتقوى.
اللهم وفق علماءنا إلى ما فيه رضاك، وكن لهم على ما فيه الخير من القول والعمل.
اللهم وفق كل من عمل للإسلام إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واغفر لنا ولوالدينا ولمن له حق علينا ولأموات المسلمين إنك جواد كريم.
اللهم إن ذنوبنا كثيرة وأنت الغفار الرحيم، اللهم فاغفر جما، اللهم تجاوز عما تعلم ولا نعلم، وما عملناه فإن صفتك العفو والغفران وصفتك التقصير والذنب والعصيان.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء إنك جواد كريم، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، طهرنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
...تابع القراءة