بحث حول الإمام مالك وموطئه .

السبت، 31 أكتوبر 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

التّعرِيفُ بِالإِمَامِ مَالِك وَمُوَطّئِهِ:


****
الموضوع : بحث حول الإمام مالك وموطئه .

الفصل الأول: التعريف بالمؤلف :

1. اسمه ونسبه ونسبته وكنيته : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غَيمان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث الأصبَحي[1] المدنيّ حليف بني تيم من قريش ،فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين .

وهو عربيّ صليبة كما قال أبو مصعب[2] وأما قول ابن إسحاق أنّه من موالي تيم فلم يتابع عليه ،قال عياض : (لم يختلف العلماء بالسير والخبر والنسب في نسب مالك هذا واتصاله بذي أصبح) ثم ذكر توهيم العلماء لابن إسحاق في ذلك .

2. مولده : بالمدينة ، قال ابن بكير : بذي المروة[3]

واختلفت الروايات في سنة مولده ويدور مجملها ما بين سنة تسعين إلى سنة ثمان وتسعين من الهجرة ،والأشهر ما قاله يحيى بن بكير أنّه سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان عام موت أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو المرويّ عن مالك نفسه، قال : (ولدت سنة ثلاث وتسعين)[4]

3. نشأته العلميّة : طلب العلم وهو حدث بُعيد موت القاسم[5] ،قال الزبير : (رأيت مالكا في حلقة ربيعة وفي أذنه شنف)[6] وهذا يدل على أنّه كان صغيرا .

وقد كان مالك يبيع البز مع أخيه النضر ،ثم طلب العلم ،وكان ينزل أولا بالعقيق ،ثم نزل المدينة[7] .

وقد نشأ رحمه الله في بيت علم وأثر وكان أكثرهم عناية بالحديث عمّه نافع المكنى بأبي سهل ،وكان أخوه النضر ملازما للعلماء ،وهكذا أبوه أنس كان أحد الرواة عن الزهري ، وروى جدّه عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن غيره ،وجدّ أبيه أبو عامر كان صحابيا رضي الله عنه .

وقد كان لأمه العالية دور في توجيه ابنها لطلب العلم ،قال مالك : (كانت أمّي تعمّمني،وتقول لي :اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه) ،وقال : (قلت لأمّي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت تعال فالبس ثياب العلم...ثمّ قالت :اذهب فاكتب الآن)[8]

فحفظ القرآن في صدر حياته ،ثم اتجه إلى حفظ الحديث ،فانقطع إلى ابن هرمز سبع سنين أو ثمان سنين لم يخلطه بغيره ،ثم أخذ عن نافع علما كثيرا [9] ثم عن الزهري ،وقد كان حريصا على التحصيل حتى أنّه روي أنّه نقض سقف بيته فباع خشبه.

بقي رحمه الله على هذا الجدّ إلى أن تصدر للفتوى فاتخذ له مجلسا في المسجد النبوي للدرس والإفتاء ،قال مالك : (ما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك)[10] ،وقيل جلس للفتوى وهو ابن الحادية والعشرين من عمره .

4. رحلاته : لا يوجد ذكر لرحلات قام بها إلى خارج الحجاز ، وقد ذكر بعض المعاصرين أنه قد رحل إلى البصرة وغيرها ،وهذا يرده أنّ أوسع ترجمة للإمام مالك و هي (ترتيب المدارك) ، وأوسع دراسة معاصرة وهي(مالك بن أنس) لأمين الخولي لم يذكر فيهما شيء من ذلك ،والله أعلم[11] .

5. أشهر شيوخه : هم كثر ومنهم الإمام نافع ،وابن هرمز ،وسعيد المقبري ،ومحمد بن المنكدر ،وعبد الله بن دينار ،والزهري ،وربيعة الرأي ،وخلق .

6. أشهر تلاميذه : لايحصون كثرة ،ومنهم وكيع بن الجراح ،وعبد الله بن وهب ،وعبد الرحمن بن القاسم ،وعبد الله بن مسلمة القعنبي ،والإمام الشافعي ،وأبو داود الطيالسي وخلق .

7. عقيدته : هو إمام من أئمة المسلمين ، وهذا شيء مستفيض مستغن عن التطويل وممّا يدل عليه

أولا : شهادة العلماء له بذلك ،قال الذهبيّ (هو شيخ الإسلام حجّة الأمّة إمام دار الهجرة)[12] ،وقال ابن المبارك : (لو قيل لي :اختر للأمّة إماما،أختار لها مالكا)

ثانيا : أقواله في السنّة شاهدة على ذلك أيضا [13]

8. حاله من حيث الجرح والتعديل : هو من أئمّة الجرح والتعديل والمتكلمين في الرجال ، قال الشافعيّ : (إذا ذكر الأثر فمالك النجم)

قال ابن حبّان : (ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الحديث وانتقاد الرجال وحفظ السنن والقدح في الضعفاء جماعة من أئمة المسلمين والفقهاء في الدين منهم :.. ومالك بن أنس ...إلا أنّ من أشدهم انتقاء للسنن وأكثرهم مواظبة عليها ،حتى جعلوا ذلك صناعة لهم لا يشوبونها بشيء آخر ثلاثة : مالك والثوري وشعبة)[14]

9. منزلته عند العلماء : لم يجلس رحمه الله للفتيا حتى شهد له سبعون من أهل العلم بالمدينة أنّه موضع لذلك ،وقد امتلأت كتب التراجم بالروايات في الثناء عليه و بيان إمامته ومن ذلك قول الشافعيّ : (مالك بن أنس معلّمي – وفي رواية أستاذي – وما أحد أمنّ عليّ من مالك ،وعنه أخذنا العلم ،وإنّما أنا غلام من غلمان مالك) .

وقال ابن عيينة : (ما نحن عند مالك ؟ إنّما كنّا نتّبع آثار مالك) ,وقال : (ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد مالك).

وقال له ابن شهاب : (أنت من أوعية العلم) .

وقال يحيى القطان : (مالك أمير المؤمنين في الحديث)[15] .

وقال الذهبيّ : (الإمام الحافظ فقيه الأمّة شيخ الإسلام ..)[16]

10. مؤلفاته : قال القاضي عياض : (... أكثرها بأسانيد صحيحة في غير فنّ ،لكنّه لم يشتهر عنه منها ولا واظب على إسماعه وروايته غير (الموطأ) ... وسائر تواليفه إنّما رواها عنه من كتب بها إليه ،أو سأله عنها ،أو آحاد من أصحابه ،ولم تروها الكافة)[17] ، ومنها :

1) رسالته إلى ابن وهب في القدر والرد على القدرية .

2) كتابه في النّجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر .

3) رسالته في الأقضية (مجلد) ،رواية محمد بن مطروح عن عبد الله بن

عبد الجليل مؤدب مالك .

4) رسالته إلى أبي غسان محمد بن مطرف في الفتوى .

5) رسالته إلى الليث في إجماع أهل المدينة - وهي مشهورة - .

6) الموطأ وهو أشهرها وأهمها .

11. محنته رحمه الله : مع بُعده رحمه الله عن الفتن نزلت به محنة في عهد أبي جعفر المنصور ،وضُرب بالسياط ،ومُدّت يده حتى انخلعت كتفاه .

واختلفوا في أسبابها على أقوال ،والمشهور أنّه كان يحدث بحديث " ليس على مستكره طلاق "[18] ،وأنّ المنصور نهاه أن يحدث به وكان هذا وقت خروج محمد بن

عبد الله النفس الزكية بالمدينة ،فدس إليه من يسأله عنه فحدّث به على رؤوس النّاس، وكان مروجو الفتن اتخذوا من هذا الحديث حجة لبطلان بيعة أبي جعفر .

وقيل إنّ الذي فعل به ذلك هو جعفر بن سليمان والي المدينة ،وربما من غير علم أبي جعفر ،وقد روي ما يدل على ذلك إن صحّ[19] .

وقيل أنه في آخر حياته رحمه الله ترك الخروج إلى المسجد بسبب ما ناله من المحنة حيث انخلعت كتفاه ، فكان يخرج منهما ريح يؤذي النّاس ،وقيل بسبب مرض أصابه وهو سلس البول ،وكان ينزه المسجد ومجالس العلم فيه عن أن يحضرها كذلك ،وكان يقول : (ما كل أحد يستطيع أن يتكلم بعذره)[20]

12. وفاته : بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة (179ه) باتفاق أهل السير ،وذلك شهر ربيع الأول ،عن بضع وثمانين سنة ،وقيل عن تسعين سنة ،ودفن بالبقيع إلى جوار قبر إبراهيم ولد النّبي صلى الله عليه وسلّم ،وقبره مشهور[21] .

الفصل الثاني: التعريف بالكتاب :

1. اسمه : (الموطأ) كذا سماه به مؤلفه فقال : (عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ)[22] ،وبهذا سماه كل من ترجم له كالقاضي عياض ،والذهبي ،والحافظ[23] ،ورضا كحالة[24] ،وغيرهم .

2. لماذا سمّي كتابه بالموطأ ؟ سمّي بذلك لأمرين :

1) لأنّه وطأ به الحديث أي يسّره للنّاس .

2) لمواطأة علماء المدينة له فيه وموافقتهم له عليه ,قال رحمه الله : (عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ)[25] .

3. سبب تأليفه : جاءت الروايات المخبرة عن طلب الخلفاء العبّاسيين منه أن يضع لهم كتابا يكون مرجعا للأحكام ودستورا تسير الأحكام به في سائر الأمصار حيث كثر الخلاف الفقهي والمذاهب المخالفة للدولة العبّاسية وبه يقوى الظّن أنّ الموطأ بدأ تصنيفه في عهد الخليفة المنصور العبّاسي وأنّه تمّ في عهد الخليفة المهدي (ت 169ه).

4. موضوعه : اشتمل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم ،وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ،وفتاوى التابعين ،كل ذلك على الأبواب . وإلى جانب ذلك وبعده غالبا فتاوى مالك فيما سئل عنه ،وقوله فيما يفهم من الحديث ،وما يعلّق به على المنقول من القول أو الفعل ،وأحبّ ما يكون من ذلك إليه ،وأعجبه عنده ,وأحسنه لديه من أشباه هذه العبارات .

5. توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف : نسبته إليه ثابتة من غير شك ،وهذا أمر مستفيض مستغن عن إقامة البرهان ،وممّا يدل على ذلك أنّ كل من ترجم له نسبه إليه ،ولم يطعن أحد في صحّة هذه النسبة ،وممن نسبه إليه القاضي عياض ،والذهبي ،وعمر رضا كحالة ،في ترجمة مالك ،وذكره الحافظ ابن حجر في ضمن مسموعاته[26]، وغيرهم ،وذلك يتبيّن من خلال النقول المتكاثرة عنه في كتب التخاريج وغيرها ،وأيضا الكتب التي عملت على الموطأ كالتمهيد وغيره.

6. مصادر الكتاب : مصدره الرواية .

7. منزلته بين دواوين السنّة : لا شك أنّه من كتب الإسلام العظيمة التي عمّ نفعها لحسن تأليفه وانتقاء أحاديثه ،قال الشافعيّ رحمه الله : (ما كتاب بعد كتاب الله عزّ وجلّ أنفع من موطأ مالك بن أنس)[27] ،وفي رواية (أصحّ)[28] ،وقال ابن عبد البّر : (الموطأ لا مثيل له ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله تعالى عزّ وجلّ)[29] .

والقول المتقدم عن الشافعي رحمه الله لا يعارض ما اتفق عليه العلماء من أنّ أصحّ كتاب بعد كتاب الله صحيحا البخاري ومسلم ،وذلك لأمور :

1) أنّ كلامه رحمه الله كان قبل وجود الصحيحين .

2) أنّ جلّ ما فيه مخرّج فيهما ،وما بقي منه ففي السنن الأربعة .

وقد قدمه بعض المالكيّة على الصحيحين ،فقال ابن العربي : (كتاب الجعفي– أي البخاري – هو الأصل الثاني في هذا الباب ،والموطأ هو الأول واللباب ،وعليهما بناء الجميع كالقشيري والترمذي فما دونهما)[30] .

لكن الراجح لدى الجمهور أنّ مرتبة الموطأ تأتي بعد الصحيحين والله أعلم ،لما فيه من المراسيل والمنقطعات .

وقد عدّه بعض العلماء سادس الكتب الستة ،ومنهم رَزين بن معاوية السرقسطي في كتابه (الجمع بين الكتب الستة) ،والمجد بن الأثير في كتابه (جامع الأصول) .

8. عدد أحاديثه : اختلف في ذلك لاختلاف الروايات ،قال العلائي : (روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة ،وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص..)[31] ،وقد بلغ عددها في رواية يحيى عنه (853ح)[32] .وقال أبو بكر الأبهري: (جملة ما في الموطأ من الآثار عن النّبي صلىى الله عليه وسلّم ،وعن الصحابة ، والتابعين (1720ح) ،المسند منها (600ح) ،والمرسل (222) ،والموقوف (613) ،ومن قول التابعين (285))[33] .

وفي سبب اختلاف الروايات في عدد الأحاديث قال سليمان بن بلال : (لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث -أو قال أكثر- ،فمات وهي ألف حديث ونيّف يخلصها عاما عاما بقدر ما يرى أنّه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين)[34] ,وقد مكث مالك رحمه الله في تصنيفه وتهذيبه أربعين عاما .

9. درجة أحاديثه : تقدم معنا قول الشافعي رحمه الله (ما في الأرض بعد كتاب الله أصحّ من موطأ مالك بن أنس) وتقدم أيضا توجيه هذا النص ،وقد أطلق مغلطاي عليه وصف الصحّة فقال : (أول من صنّف في الصحيح مالك)[35] ،وقال القاضي عياض : (فإن الموافق والمخالف اجتمع على تقديره وفضله وتقديم حديثه وتصحيحه)[36] .

وقد ذهب إلى القول بأن كل ما في الموطأ صحيح جمع من الأئمة في المشرق والمغرب وقد أشار إلى ذلك ابن الصلاح وابن حجر في آخر باب الصحيح من أنواع علوم الحديث .

هذا وقد ذهب ابن حزم (مراتب الديانة) إلى أنّ فيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء .وعلّه أراد والله أعلم ما فيه من البلاغات والمنقطعات ونحو ذلك ,فأما بلاغاته فقد وصلها كلها ابن عبد البر في (التجريد) إلى أربعة أحاديث .

وقد تعقّب اللكنوي ابن حزم بقوله : (مراده بالضعف,الضعف اليسير ,كما يعلم مما قد مرّ،وليس فيه حديث ساقط،ولا موضوع،كما لا يخفا على الماهر)[37] .

وعلى أيّ فالأمر كما قال الحافظ ابن حجر : (والحاصل .. أنّ أول من صنف في الصحيح يصدق على مالك باعتبار انتقائه وانتقاده للرجال, فكتابه من أصح الكتب المصنّفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه.. فكتابه صحيح عنده وعند من تبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف، وأما أول من صنّف في الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف فأول من جمعه البخاري ثمّ مسلم كما جزم به ابن الصلاح)[38]

10. شرطه في كتابه : لم يصرح بأن شرطه في كتابه كذا وكذا ،ولكن لا شك أنّه

رحمه الله انتقى أحاديث كتابه ،وقد جاء أنّه انتخبه من مائة ألف حديث[39] .

وقد جاءت عدّة روايات بأنّه كان عند طلبه للحديث اشترط لذلك شروطا ومن ذلك

1) عدم تلقي الحديث إلى من أهله ؛ قال ابن أبي أويس سمعت خالي مالك بن

أنس يقول : (لقد أدركت سبعين ممّن يحدث.. فما أخذت عنهم شيئا ،وإنّ أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن..)[40] .

2) عدم تلقي الحديث من سفيه ،أو كذاب ،أو صاحب هوى داع إليه ؛ قال مالك : (لا يؤخذ العلم من أربعة ،ويؤخذ من سوى ذلك : لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو النّاس إلى هواه ،ولا من كذاب يكذب في أحاديث النّاس ،وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم،ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث)[41] .

وقال أحمد بن صالح : (ما أعلم أحدا أشدّ تنقّيا للرّجال والعلماء من مالك ،ما أعلم روى عن أحد فيه شيء ،روى عن قوم ليس يترك منهم أحد)[42] .

وقال بشر بن عمر : سألت مالك بن أنس عن رجل فقال : هل رأيته في كتبي؟ قلت : لا . قال : لو كان ثقة لرأيته في كتبي[43] .

وقال ابن عيينة : ( كان مالك .. ولا يحدّث إلا عن ثقة )[44] ،وقال الشافعي : (كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كلّه)[45]

11. منهجه فيه :

1) . جعله على الكتب والأبواب – على أبواب الفقه - .

2) يسند ما يرويه حينا ويرسل أخرى ..

3) يبدأ بالمرفوع غالبا ثم يتبعه بالآثار ثمّ يعلق عليه .

4) توخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز .

5) لم يقتصر فيه على المرفوع بل ضمّ إليه المقطوعات والمراسيل والبلاغات .

6) يذكر أحيانا آرائه الفقهية الخاصة به ،وربّما بيّن ما عليه العمل ،أو الأمر المجمع عليه عندهم ،أو ما أدرك عليه أهل العلم .

7) مزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.

8) قال بأنّه يقصد بالألفاظ الآتية ما يلي ؛

(الأمر المجمع عليه) : ما اجتمع عليه قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه .

(الأمر عندنا) : ما عمل الناس به عندنا ،وجرت به الأحكام ،وعرفه الجاهل والعالم . ومثله (ببلدنا) .

(بعض أهل العلم) : هو شيء استحسنته من قول العلماء .[46]

12. رواة الموطأ : قال أبو العبّاس الداني في (الإيماء) أنّ رواته لا يحصون ،وقد خصّهم عدد من العلماء بالتأليف منهم ابن ناصر الدين الدّمشقي وقد بلغ بهم (79) قال : (إلا من ذكرهم القاضي عياض في (ترتيب المدارك))[47] ،ومنهم ؛ عبد الله بن وهب ، وعبد الرحمن بن القاسم ،وعبد الله بن مسلمة القعنبي ،وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ،يحيى بن يحيى الأندلسي ،وخلق .

وأكثر هذه الروايات زيادة رواية أبي مصعب ،قال ابن حزم بنحو مائة حديث .[48] وآخر رواة الموطأ موتا أبو حذافة السهمي[49] ، وعبد الله بن يوسف التنيسي من أثبت النّاس في الموطأ[50] ،وأمّا رواية يحيى الليثي فهي أوعبها ، وهي التي اعتمدها النّاس وشرحوها ،قال الكتّاني : (وإذا أطلق في هذه الأعصار موطأ مالك فإنّما ينصرف لها)[51] ،وقد سمع يحيى من مالك في أواخر حياته[52] ,وله فوت في أبواب من كتاب الاعتكاف شك في سماعها من مالك فأثبتها من سماعه لها من زياد بن عبد الرحمن شبطون عن مالك[53].

بعض ما قيل في هؤلاء الرواة من جرح أو تعديل :

1) يحيى بن يحيى الليثي : كان ثقة عاقلا[54] ،لكن قال ابن عبد البر : (ولم يكن له بصر بالحديث)[55] ،قال الذهبي : (نعم ما كان من فرسان هذا الشأن،بل كان متوسطا فيه رحمه الله)[56] ,ولذا وقع له بعض الوهم في روايته نبّه عليه ابن عبد البر ،وأبو العبّاس الداني ،وغيرهما[57] .

2) وباقي الرواة المذكورين آنفا ثقات غير أبي مصب الزهري فهو (صدوق) ، أخرج له الشيخان .

13. عناية العلماء بالموطأ : قال القاضي عياض : (لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء النّاس بالموطأ..فأما من اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك فعدد كثير من المالكيين وغيرهم)[58] وهكذا تعددت أوجه العناية به ،فمن شارح له ،ومن مصنف في رجاله ،ومن مرتب له على المسانيد ،وعلى الأطراف ،أو مفتش عن غريبه ومشكل معانيه .

· من شروحه[59] :

أ‌- (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) لابن عبد البر(463ه) .

ب‌- (الاستذكار لما في الموطأ من المعاني والآثار) له .

ت‌- (المنتقى في شرح موطأ إمام دار الهجرة) لأبي الوليد الباجي(474ه)

· وممن جعله على الأطراف : أبو العبّاس الداني في (كتاب الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ) .

· وممن اختصره : أبو الحسن القابسي في (مختصر موطأ الإمام مالك) .

· وفي غريب ألفاظه : ( تفسير غريب الموطأ) لعبد الملك بن حبيب .

· وفي رواياته : (اختلاف الموطآت) للدارقطني .

· وفي رجاله : (إتحاف السالك) لابن ناصر الدين الدمشقي،(إسعاف المبطأ برجال الموطأ) للسيوطي .

إلي غير ذلك من أوجه العناية به مما يصعب حصره .


هذا الله أعلم وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .



إعدادالطالب: يونس بن محمدالوالدي


******
[1] بفتح الألف وسكون الصاد المهملة وفتح الباء المنقوطة وآخرها حاء مهملة نسبة إلى أصبح قبيلة من حمير وحمير من قحطان (الأنساب) للسمعاني(1/287).

[2] ترتيب المدارك (1/107،106) .

[3] المصدر نفسه (1/124)

[4] تذكرة الحفاظ (1/212) .

[5] السير (8/49) .

[6] ترتيب المدارك (1/121)،والشنف :ما يعلّق في أعلى الأذن (النهاية)(2/505) .

[7] المصدر نفسه (1/124).

[8] ترتيب المدارك (1/121).

[9] المصدر نفسه (1/132).

[10] المصدر نفسه (1/142).

[11] انظر (منهج الإمام مالك رحمه الله في إثبات العقيدة) للدعجان(ص: 28) .

[12] السير (8/48) .

[13] انظر طرفا منها في (السير 8/98) فما بعدها .

[14] مقدمة المجروحين (1/39) .

[15] انظر هذه الأقوال في ترتيب المدارك (2/148-162)

[16] تذكرة الحفاظ (1/207)

[17] ترتيب المدارك (2/90) .

[18] السير (8/79-81) ،جاء موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما .

[19] ترتيب المدارك (2/131-132) .

[20] ترتيب المدارك (2/55) .

[21] المصدر نفسه (2/146) .

[22] تنوير الحوالك (ص: 9) .

[23] المعجم المؤسس (1/106)

[24] معجم المؤلفين (3/9) .

[25] تنوير الحوالك (ص: 9) .

[26] المعجم المؤسس (1/106) .

[27] التمهيد (1/76-79) .

[28] علوم الحديث (ص: 14).

[29] التقصي (ص: 9) .

[30] العارضة (1/5) .

[31] تنوير الحوالك (1/9) .

[32] تجريد التمهيد (ص: 258) .

[33] تنوير الحوالك (ص: 8) .

[34] ترتيب المدارك (1/193) .

[35] تنوير الحوالك (1/8) .

[36] ترتيب المدارك (1/198) .

[37] الأجوبة الفاضلة (ص: 47) .

[38] النكت (1/278-279) .

[39] تنوير الحوالك (ص: 8) .

[40] المحدث الفاصل (414-416) .

[41] التمهيد (1/66-67) .

[42] (الإرشاد) للخليليي (1/210-212) .

[43] المحدث الفاصل (ص: 410) .

[44] ترتيب المدارك (1/150) .

[45] التمهيد (1/63) .

[46] ترتيب المدارك (2/74) .

[47] نقلا من مقدمة الدكتور محمد ولد كريم لتحقيقه لكتاب (القبس) لابن العربي (1/58) .

[48] تنوير الحوالك (1/9) .

[49] السير (8/54) .

[50] التقريب (ص: 330) .

[51] الرسالة المستطرفة (13-14) ، وقد أفردت روايته بدراسات منها (يحيى بن يحيى الليثي وروايته للموطأ) لمحمد شرحبيلي

- رسالة ماجستير بالقرويين -

[52] (تاريخ علماء الأندلس)لابن الفرضي (2/176) .

[53] إتحاف السالك (ص: 137) .

[54] (الانتقاء)لابن عبد البر(ص: 109) ،و(الإرشاد) (1/265) .

[55] المصدر نفسه.

[56] السير (10/523) .

[57] (أخبار الفقهاء والمحدثين)للخشني (349-358) .

[58] ترتيب المدارك (1/198) .

[59] انظر مقدمة تحقيق (تفسير غريب الموطأ) لعبد الرحمن العثيمين (1/150)،فقد ذكر فيه (130) شرحا وقد تجوّز في تسمية بعضها شرحا .
...تابع القراءة

كيف يفكر المسلم في الواقع ؟

الجمعة، 30 أكتوبر 2009









بسم الله الرحمن الرحيم

... كما هو معلوم فإن هدي الأنبياء عليهم السلام وهدي الصحابة والخلفاء الراشدين ومن شابههم ومن سلك سبيلهم في العلم والعمل، هذا الهدي يشتمل على العلم والعمل والعبادة، ويشتمل أيضا على طريقة التفكير في الأمور، ولهذا حضّ الله جل وعلا في القرآن أهل الإيمان على التفكر والتدبر في الملكوت وفيما حولهم وفي النفس، واختتمت كثير من الآيات بأن فيها آية أو آيات لقوم يتفكرون، ولقوم يعقلون.
فالعقل والفكر مهم جدا، بل إن حجج الله جل وعلا وإن بيّناته والآيات والبراهين التي أوتيها الأنبياء عليهم السلام ما ثبتت إلا بما أَعمل به أهل العقول عقولهم؛ فعرفوا أنها آية وبرهان من الله جل وعلا، كما قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنْهُ حينما قيل له في إسراء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعراجه إلى السماء ثم رجوعه في ليلة فقيل: كيف تصدّق ذلك؟ قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، يأتيه الوحي من السماء ونحن عنده. وهذا لأجل صحة المنهج في التفكير والنظر في الأمور؛ لأنه إذا صح المنهج فإنّ الشبهات تولّي ولا تأتي.
وكما هو معلوم فإنه ما من شيء في الحياة اليوم إلا وله منهج به تُعلم الطريقة الصحيحة في الوصول به إلى النتائج، سواءٌ أكان في المسائل العلمية أو المسائل العملية.
فنقول مثلا منهج الاعتقاد كذا، المنهج في العقيدة؛ بما تثبت العقيدة، وكيف نعلمها، وكيف نتلقى النصوص، وكيف نفهم ذلك.
المنهج في الفقه، جعل له العلماء أصول الفقه.
المنهج في الحديث، جعل العلماء له مصطلح الحديث.
المنهج في السيرة جعل له العلماء أصول السيرة.
في التاريخ جعلوا مصطلح التأريخ.
وفي اللغة العربية جعلوا النحو.
وفي البيان والمعاني جعلوا البلاغة.
وهكذا في التفسير جعلوا علوم القرآن. وهكذا في أمور كثيرة.
كذلك في السلوك والتعبد هناك منهج وطريقة رسمها السلف حتى يتبيّن الحق من الباطل في مسائل السلوك، ولما أتى ثلاثة نفر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألوا عن عبادته فأخبروا بها فكأنهم تقالّوها، فقال: أحدهم أما أنا فأصلي ولا أنام. وقال: الآخر فلا أصوم ولا أفطر. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فأُخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبين لهم الهدي والطريقة ومنهج التفكير في هذه الأمور هو منهج العمل فقال «أما أنا فإني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فالمنهج في العلم والمنهج في العمل مهم جدا لسلوك الصراط المستقيم، وفائدة هذا المنهج أن المنهج يعصم من أن يكون للمرء المسلم في كل يوم طريقة وحكم على الأشياء، فإذا كان المنهج مستقيما والتفكير صحيحا وفق الشرع ووفق الكتاب والسنة وهدي السلف وما نص عليه الأئمة من أهل العلم الذين شهدت الأمة لهم بالإمامة فإنه يُعصم المرء من الخطأ.
فإذا كان عرّف أهل العلم أصول الفقه وأصول الحديث وأصول التفسير والنحو وهكذا بأن مجمل هذه الأمور التي هي أمور المنهج والأصول أنها قواعد قوانين وضوابط تعصم من الخطأ في العلم.
فكذلك الأمور التي تقع في الأمة وما يحصل في الحياة اليومية كيف يتعامل المسلم مع هذا الواقع، هذا في الحقيقة يحتاج إلى منهج وإلى طريقة، لذلك عنوان هذه المحاضرة أُختير بأن يكون:
منهج التفكير في الواقع
أو
كيف يفكر المسلم في الواقع
وهذه هي المعضلة اليوم، فنجد أن كثيرين من المسلمين لديهم نظر في الواقع؛ إما في الواقع السياسي، أو في الواقع العلمي، أو في الكلام على الدول، أو في الكلام على العلماء أو في الكلام على الدعوات أو الحركات الإسلامية أو على الشباب أو على الكبار أو على المؤسسات الخيرية، أو في الكلام على طريقة النجاة في الأمة، وكيف تخرج الأمة من هذا المأزق الذي تعيشه، وكيف وكيف وكيف في أشياء كثيرة.
لكن نجد أن كثيرين لهم في كل حال موقف، ولهم في كل قضية رأي، وهذا خلاف الأصول، الأصول الشرعية تقضي بأن يكون المنهج مستقًى في التفكير من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ومستقى من المنهج العام الذي سلكه علماء الأمة وحكماؤها؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بالسنة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، وقال «وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» ونحو ذلك.
فإذن هذه الأمة بحاجة إلى منهج في التفكير في الواقع، مهما تغير الواقع، ومهما تغيرت الأحوال، قبل مائة سنة، قبل خمسمائة سنة، قبل ألف سنة، واليوم وغدا، لابد من صناعة منهجٍ في التفكير.
هذه المحاضرة لا أدعي أني سأضع كل معالم هذا المنهج؛ لأن هذا يحتاج إلى تأصيل هذا العلم وتدوينه، وإلى أن ينبري له المجموعة الكبيرة من العلماء والدعاة وطلبة العلم وأهل الحكمة والعقل، حتى يكون مؤصَّلا لدينا في تعليمنا وفي جامعاتنا وفي التعليم العام وفي منهج دعاتنا وفي المساجد ولدى الشباب ولدى الناس إلى آخره، حتى يكون المنهج مؤصلا لطريقة في التفكير سليمة لكي يكون المرء على سلامة في دينه.
ولذلك أهم ما يهتم به الواحد منا كيف ينجو؟
ليس العجب ممن هلك كيف هلك؛ ولكن العجب -كما قال السلف- ممن نجا كيف نجا.
لما استعرض بعض علماء السلف سبل الهلاك وسبل الغواية، قال: ليس ممن هلك كيف هلك؛ لأن سبل الشيطان كثيرة، كثيرة جدا، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا.
ومعالم النجاة أولها وأعظمها توفيق الله جل وعلا وإعانته وتسديده، هذا هو العصمة، ثم أن يأتي المرء بالأسباب، ومنها ملازمة الطريقة المثلى؛ طريقة السلف الذين شهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بالسلامة فيما هم عليه، وأنهم خير هذه الأمة «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، فإذن نحن بحاجة إلى هذا المنهج؛ ولكن هذه المحاضرة لبيان بعض المعالم المتعلقة بهذا المنهج.
وهي تحتاج إلى مزيد بسط وتحرير وتفصيل ودراسة مني ومن المختصين في ذلك حتى يُوضع منهج للتفكير والنظر في الأمة في هذه الأحوال والوقائع وما شابهها.
ما فائدة وضع المنهج؟
أولا المقصود السلامة والنجاة وأن نزدلف إلى الجنة ونبتعد من النار ?فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ?[آل عمران:185]، الحاجة للمنهج حتى نزدلف إلى مرضاة الله جل وعلا.
ثانيا الحاجة للمنهج في أن يكون موقف المسلم غير مبني على هوى، غير مبني على تأثيرات عاطفية وتأثيرات غير شرعية، وإنما لهم في كل يوم رأي وموقف ونظر.
الثالث أن يكون هناك وحدة في المواقف والرأي والنظر في الأمور، فإذا كان هناك تغير في المواقف مع كل شيء جديد ومع كل حدث، فإن هذا يعني أنه ليس لدينا طريقة مستقاة من الدين نثبت عليها، والثبات من معالم النجاة، الثبات على النّهج الصحيح هذا من معالم النجاة، أما الذي له كل يوم منهج وله كل يوم طريقة ويتقلب من الأمور ومع الأحوال كيفما تقلّبت، فإنه حينئذ لا يرجع إلى ركن وثيق، ولذلك أهل العلم من سماتهم أنهم لجؤوا بالعلم إلى ركن وثيق فإنهم مهما تغيرت الأمور فلديهم الركن الوثيق الذي يرجعون إليه.
من فوائد وجود المنهج أن يكون هناك تقييم للأمور سليم، الناس دائما يقيّمون الأمور: هذا جيد، هذا غير جيد، هذا باطل، هذا خبيث، هذا طيّب، فكل يوم لهم كلام، ولهم طريقة، وكل أحد يعتقد أن ما يأتي به هو الصواب، فوجود المنهج يقرّب الآراء، ويكون هناك تقييم للأمور صحيح.
أيضا وجود المنهج يعصم من التصورات الخاطئة في الأمور، حتى لا يكون هناك زلل في أن ينسب للشريعة ما لا ليس منها، ولذلك نجد اليوم الكثير يقول هذا هو الإسلام، الإسلام يقول كذا، الإسلام يدعو إلى كذا، وهناك أقوال كثيرة مختلفة، فهل هذا هو الإسلام، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإسلام؟
فلابد إذن من طريقة في التفكير تعصم المرء في مثل هذه الأوضاع المتغيرة.
أيضا من فوائد وجود المنهج التفريق بين الحقيقة والباطل، وبين الحقيقة وضدها، لأن هدف المسلم ما هو؟ الحق، هدفنا دائما هو الحق، وأن ندعوا إلى الحق ونستمسك بالحق، كيف يعرف ذلك؟ له أساليبه، ومنها أن يكون منهج التفكير صوابا صحيحا.


هناك معالم عامة تؤثر في التفكير الصحيح


إذا كان المنهج المقصود منه التفكير الصحيح، فإن المعالم التي تجعل هذا التفكير صحيحا متمثلة في عدة أمور:
الأمر الأول هو الحذر من الفتن، فإن الفتنة في القول أو في العمل، هذه يجب أن نحذرها سواء على أنفسنا أو في مجتمعنا، ولذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحّ عنه كما في البخاري أنه قال «ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» والفتنة مأمور أن نبتعد عنها وعن أسبابها.
فإذن من المؤثرات أن يكون من منهجنا أن نبتعد عن الفتن ونسعى في السلامة، فكل شيء يؤدي إلى فتنة واختلاف في القول والعمل وحدوث فتنة في المسلمين فهذا من الأساسيات أن نبتعد عنه حتى نصل إلى التفكير الصحيح.
أما إذا أتى أحد وقال: لا يهمني، المهم أني أصل إلى الأمر سواء حدث فتنة أو ما حدث فتنة، الصحابة تقاتلوا وحصل ذبح وحصل قتال ونحو ذلك.
فهنا بدأ الهز في التفكير، وحينئذ لا تستغرب أن يكون بعدها نتائج عنده في التفكير أخرى.
فإذن الوقاية من الفتن هذا منهج، ولذلك كان من سمة الصحابة، حتى لما وقع الاختلاف أنهم حذّروا وابتعدوا عن الفتن وما يؤدي إليها.
الأمر الثاني أن نحسن الظن بالله جل وعلا وأن نتفاءل فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صح عنه أنه قال «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى» والتفاؤل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب الفأل.
فإذن هناك معلم من معالم الوصول إلى التفكير الصحيح، أن لا تنظر إلى الأمور بيأس، بقنوت، بنظرة -كما يقولون- سلبية سوداوية، إنما تنظر بتفاؤل؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قال العلماء: معنى قوله (بدأ غريبا وسيعود غريبا) أنه كما أنه في أول البعثة في أول الرسالة بدأ غريبا ثم قوي وانتشر، فكذلك سيعود غريبا ثم يقوى وينتشر، وهذا يعطيك الفأل وحسن الظن، وهذا مصداقه في قول الله جل وعلا ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، من الذي شهد بهذه الشهادة؟ الله جل وعلا.
فإذن يكون من معالم تفكيرك فيما أنت فيه وفي المستقبل أنك تكون متفائلا محسّنا الظن بالله جل وعلا كما وعد الله جل وعلا أنه سينشر هذا الدين، وقد صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «لا تقوم الساعة حتى لا يكون بيت من مدر ولا وبر إلا أدخله الله في هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله»، وهذا يعطينا انشراح الصدر والتفاؤل، فحينئذ يكون التعامل في الحياة الدنيا والعمل والدعوة والمواقف مبنية على الفأل لا على القنوت ولا على اليأس ?وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ?[الحجر:56].
فإذن من معالم الضلال والبعد الاهتداء للطريق الصحيح أن يكون هناك يأس وقنوط؛ بل لا بد أن نكون كما أمر الله جل وعلا وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكون متفائلين، نحسن الظن بالله جل وعلا، ونعلم أن وعد الله حق، وحينئذ تكون موقفنا وتفكيراتنا فيها الإيجابية وفيها العمل للمستقبل بالعمل الصحيح المؤثر.
من معالم التفكير الصحيح أنّ المسلمين فيهم حسنات وفيهم سيئات، سواء أكانوا عامة أم خاصّة، سواء أكانوا ولاة أم علماء أم طلبة علم أم دعاة أم من عامة المسلمين، كلّ فيه حسنة وفيه سيئة، لابد من موجود هذا وهذا، فهل أحد يسلم من السيئات؟ لا، وهل هناك مسلم لا يكون عنده حسنات؟ ليس كذلك.
فإذن من منهجنا في التفكير أن نمتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «من قال فسد الناس فهو أفسَدَهم» وفي ضبط «فهو أفسَدُهم»، (من قال فسد الناس) هؤلاء الناس سيئين لا يهمونك، يقول هو الذي أفسدَهم لماذا؟ لأنه مبني على القاعدة التي سأذكرها لك.
إذن إذا كان هناك وجود للحسنات وجود للسيئات، كيف نفكر؟ نفكر بأن الحسنات ننشرها ونضخمها؛ لأن الناس يقتدون ويتأثرون بذلك، والسيئات نكتمها ولا نظهرها.
الآن من سمة الناس أو من سمة بعض الناس أنهم إذا سمعوا بأي خبر سيء إما معصية أو قصور مقصر أخذوا يتحدثون به، هذا له أثر سلبي كبير جدا حتى على الطاعة؛ لأن هذا يؤدي إلى أن الناس يتساهلون في المعصية، ويقل عندهم الرغبة في الخير، ويتصورون أن الشر كثير، وهذا ليس بصحيح. (1)
فإذا مثلا جاء أحد وقال: والله انتشر الفساد وصار فيه كذا وكذا. وجاء النظر فيه وفق التقييم الصحيح وجدت أنه لا يتعدى خمس في المائة، عشر في المائة، خمسة عشر في المائة، في مجتمعنا مثلا، لكن هل هذا صار هو الغالب؟ لا.
لكن إذا كان المنهج غير صحيح، فإنه حينئذ تنظر السلبيات، وتضخم وللحسنات فتُضْعف، وبالتالي يكثر الفساد شيئا فشيئا.
والواجب أن يكون منهجنا في التفكير قائما على إبراز الحسنات، وعلى ذِكرها، وأن نحذر من فسد الناس، أو الأمور صارت فاسدة، أو البلاء في كذا، العلماء فيهم، والدولة فيها، الناس فيهم، فسد، بيت فلان فيه كذا، وهؤلاء عملوا كذا، هذا ينشر الفساد شيئا فشيئا.
أما إذا تعاونتَ على البر والتقوى، فأكثرت من الحسنات وجعلت السيئات تقل حتى بالذِّكر، فإنه حينئذ يزيد الخير.
والحظ هنا أن من مظاهر زيادة السوء والفساد في الناس التحدث به، يتحدّث به، ربما يتحدث المرء عند أولاده، فلانة فيها كذا وهذه عملت كذا، وهذا فلان عمل كذا، يغريهم ويسهل عليهم كثيرا من الأمور.
فإذن من منهجنا في التفكير الصحيح أن نُظهر الحسنات، ونبرزها، ونكثر من الحديث عنها لأنها تشرح النفس وترغب وتجعل الناس يسيرون فيها، ونخفي السيئات ونُخفي آثارها؛ لكن هذا لا يعني أن لا نتعامل مع السوء وفق القواعد الشرعية، إذا كان مقتضى النصيحة فننصح، مقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وفق الشريعة، مقتضى عمل ما نعمل به.
إذن فهناك نظر صحيح بالنظر إلى الحسنات وإلى السيئات.
الرابع عدم المبالغات.
حتى نفكر تفكير صحيح في الأمور نحذر من شيء ألا وهو المبالغة، وأنا جرّبت يمكن الكثير منكم جرّب، أحاديث الناس كثير منها مبالغات: إما مبالغات في المدح أو مبالغات في الذم.
يأتوا إذا أعجبوا بإنسان ويعلوه في السماء وإذا ما أعجبهم وضع فلان حطوا فيه إلى أن يكون في الأرض، وهذا خلاف العدل الواجب، الواجب أن نكون معتدلين أهل عدل، الله جل وعلا يقول ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?[الرحمن:9]، ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?، أن نقيم الوزن بالقسط بالعدل، ما نجعل هناك مبالغة لا في مدح ولا في ذم، ولذلك [القسط القسط] تبلغوا، الوسطية الاعتداء تجعلنا نبتعد عن طرف الغلو وطرف الجفاء، وهذا هو الذي ينتج نوع من التفكير سليم به تتعامل مع القضايا بقوة.
أنت تنظر الآن المبالغات كثيرة مبالغات في القنوات الفضائية، مبالغات في الصحف، مبالغات في أخبار الناس، فلان فعل كذا وفلان فعل كذا، حتى في الحضور نأتي مثلا كم حضر عند فلان؟ يمكن حضر عشرين ألف وما هو إلا ألفين، المسجد أصلا ما يسع إلا ألفين شخص، كيف صاروا عشرين ألف، فلان ما حضروا له إلا خمسة، والذي حضر خمسين أو ستين، فهناك نظرة مبالغة في الأمور في هذا الجانب أو في هذا الجانب توقع في الخطأ.
كذلك الآن المبالغة من الجهات الإعلامية، القنوات الفضائية تعطيك مبالغات تؤثر عليك في منهج التفكير، إما مبالغات بالأخبار أو مبالغات بالصورة، أو مبالغات بالتأثيرات الصوتية والمرئية، تعطيك إحساسا بأن الشيء كبير جدا، ما يسلم من هذا الإحساس أحد؛ ولكن العاقل يجب أن يفكر كيف يتعامل مع هذه المبالغات، المبالغة لا يسوغ الاستسلام لها؛ لأنها تضل في جانب التفكير، فإذا كان الإنسان يذهب في الأمور كلها في المبالغات فمعنى ذلك أنه ما أخذ بقول الله جل وعلا ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?[الرحمن:9]، وقول الله جل وعلا ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى?[الأنعام:152]، ولا بقوله جل وعلا ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:9].
فإذن الحذر من المبالغات، والنظر السليم في المعلومة الصحيحة، يأتيك شيء لا تصدّقُه لا تحدثْ به، لهذا ثبت في مقدمة صحيح مسلم رحمه الله تعالى أنه قال «من حدّث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبِين»، (من حدث بكل ما سمع) تحدث بكل ما سمعت فأنت أحد الكاذبِين، لماذا؟ لأنه لابد من مبالغات في حديث الناس، ولابد فيها صدق وفيها كذب، فإذا حدثت بكل شيء فأنت أحد الذين شاركوا في نشر هذه الأمور.
الخامس من معالم التفكير الصحيح ومنهج التفكير السليم الشرعي السلفي، الذي أصله علماء السلف وأئمتهم في مجمل كلامهم، أن يكون المسلم محبا للخير للمسلمين وكارها للشر لهم.
المؤمنون والمسلمون بينهم محبة في الله ووَلاية في الله قال جل وعلا?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ?[الحجرات:10]، وقال ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?[التوبة:71]، يعني بعضهم يحب بعضا وبعضهم ينصر بعضا.
أن تحب الخير للمسلمين هذا يعطيك هدوء وتفكير صحيح في الاتجاه وفي معالجة القضايا.
بعض الناس يأتي ويقول: هؤلاء ما يأتي منهم إلا الشر وهؤلاء فيهم البلاء عملوا كذا. لكن الأصل محبة الخير للمسلمين، فمن كان منهم مهتديا على الطريق الصحيح سليما فإنك تعضده وتعينه؛ لأنه يمشي على وفق المنهج الصحيح، منهج السلف الصالح، منهج العلماء الربانيين الراسخين في العلم، ومن كان له غلط فيناصح يبين له خطؤه، لا يتبرأ منه؛ لأن المحبة بقدر ما فيه من الإيمان.
وهكذا فكلّ مؤمن له محبة وله نصرة بقدر ما فيه، حتى الظالم من المسلمين فتنصره بحبسه عن الظلم «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» قال: كيف أنصره ظالما؟ قال «أن تحجزه عن الظلم» إذا رفضت بقوة ووقفته عند حده -مثل ما يقولون- هل هذا محبة الشر له أو محبة الخير له؟ محبة الخير له، لذلك جاء في الحديث «عجبت لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل» يقاد للجنة بإيش؟ بحبسه، يقاد إلى الجنة بسجنه لأنه يحصل له من الخير ما لا يحصل له بخلاف ذلك، فإذن محبة الخير للمسلمين تعطيك انشراح في النفس وتعطيك عاطفة صحيحة؛ ولكن بانضباط لأن هذه المحبة وفق النقاط التي ذكرنا.
السادس من المعالم العامة للمؤثرات الصحيحة في التفكير: أن يكون هناك غيرة لدى المسلم منضبطة بضوابط الشرع.
المسلم يحتاج إلى ثبات على الحق، ثبات على الهدى، ويحتاج إلى أن يكون في نفسه حب لمناصرة الحق والدعوة إليه، هذه لا تكون إلا بوجود الغيرة على الإسلام، الغيرة على المسلمين، الغيرة على حرمات الله، هذه الغيرة تجعلك تفكر بالتفكير الصحيح بحيث إنه لا يحملك الذي ذكرناه في عدم الاهتمام بالأمور وعدم النظر يكون كل شيء دع الأمور ولا تهتم بشيء؛ بل يكون هناك غيرة وتحسّس لواقع المسلمين لما عليه الأمة لما فيه المسلمون لمن أحوال، يكون عندك غيرة على حرمات الله، غيرة على المسلمين في تعليمهم أو في نصرتهم أو في تقويتهم.
لكن هذه الغيرة تكون منضبطة بضوابط الشرع؛ لأن الغيرة تحمل على الثبات وتعين على سبوك الطريق المستقيم وعدم التأثر بالشيطان، وكما قال اين القيم رحمه الله في بعض كتبه أظن مدارج السالكين يقول: إن من أعظم أسباب رد كيد الشيطان الغيرة في الله. الله جل وعلا يغار، ونحن نغار أيضا، كما جاء في الحديث «إن الله يغار» والمؤمن يغار على حرمات الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القدرة في ذلك.
لكن هذه الغيرة قد تحمل على أن يكون الاتجاه إلى أمور منكرة، إما إلى جهاد بطريقة غير صحيحة، أو إلى نهي عن منكر بطريقة غير شرعية، أو إلى سفك للدماء، أو إلى إتلاف للأموال أو إلى تناول ... أو أن تكون الغيرة مسلوبة بحيث لا يهمه لا يعرف معروفا وينكر منكرا.
فإذا كانت منضبطة بضوابط الشرع على أساس العلم والصبر، فإنه لا بد من علم بالأحكام الشرعية حتى تعرف أن غيرتك محمودة، ثم لابد من الصبر الذي يحمل على عدم الخروج عن مقتضى الغيرة الشرعية الصحيحة.
نوح عليه السلام كم مكث في قومه؟ ألف سنة إلا خمسين عاما قال جل وعلا في سورة العنكبوت ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ?[العنكبوت:14-15].
هنا سؤال: لماذا جاءت قصة نوح في آيتين في قصة العنكبوت ليش؟ قصص الأنبياء لا ترد في سورة إلا ولها هدف، تجد في بعض السور قصة نبي من الأنبياء تأخذ أربعين آية، خمسين آية، ستين آية، أو أكثر؛ بل هناك سورة خاصة ليوسف عليه السلام، سورة نوح، سورة هود وإن كان فيها قصص من الرسل؛ لكن سورة كاملة لقصة يوسف، سورة كاملة بقصة نوح، وهكذا.
فلماذا أحيانا تأتي مختصرة وأحيانا تأتي مطولة؟ هذه فائدة عرضية في المحاضرة لأجل مناسبة ذكر قصة نوح عليه السلام.
جاءت في سورة العنكبوت في آيتين؛ لأن المقصود من ذكرها في هاتين الآيتين هو ذكر الزمن فقط ?فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا? ثم ذكر النتيجة ?فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ?، القصة بتفاصيلها لا تهم في هذا الموضع لماذا؟ لأن سورة العنكبوت الهدف منها والمقصد هو التحذير من الفتنة، لذلك في أولها ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، ?وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? سورة في كل ما فيها يتحدث عن الفتنة الآية الآن قصة نوح عليه السلام في آيتين ما الفتنة؟ أين المخرج من الفتنة الذي دلت عليه هذه الآية؟ فتنة بالزمن، ما صار شيء، عشر سنين ما صار شيء، عشرين سنة ما صار شيء، ثلاثين سنة ما صار شيء، ما نفعت الدعوة، ولا نفع كذا، لابد من الجهاد المسلح، نوح عليه السلام كم مكث؟ ألف سنة إلا خمسين عاما، ما النتيجة؟ النتيجة أنه دعا الله جل وعلا فأنزل النصر عليه، لكن كم المدة؟ فهذا يعطيك الحذر من الافتتان بالزمن وأن تقول عملنا وعملنا ما نفع، هؤلاء عملوا لابد من كذا وكذا، دون طريقة شرعية صحيحة.
فإذن من نظر إلى الأمور بدون نظر علم وصبر فإنه خالف منهج أولي العزم من الرسل ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ?[الأحقاف:35]، وقال في الآية الأخرى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60].
المؤثرات السلبية في التفكير السليم
أولا مما يؤثر سلبا على التفكير الصحيح ويؤدي إلى التفكير الخاطئ: أن يحرم العبد التوفيق من الله جل وعلا وأن يبتلى بالخذلان. وما نحن لو لم يأخذ الله جل وعلا بأيدينا، هل نحن الذين هدينا أنفسنا؟ لا، ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، ?بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?[الحجرات:17]، ما هي المنّة؟ المنة الإعطاء من دون موجب استحقاق، أعطيتك شيء وأنت ما فيه شيء بيني وبينك ما تستحقه هذا من كما قالت بثينة:
ما ضرك لو مننت وربما .......................
لنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب منه يعفو عن أخيها:
ما ضرّك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيض المحنق
يعني أعطى وعفا من دون استحقاق، الله جل وعلا يمنّ علينا.
فإذن من معالم الخلل الكبير في التفكير أن يخذلك الله جل وعلا والعياذ بالله ويحرمك التوفيق.
التوفيق ما هو؟ إعانة الله جل وعلا في أموره.
الخذلان أن يخذل الله جل وعلا هذه الإعانة في أمورك وأن تترك ونفسك.
فإذا تُركت ونفسك وقع الزلل، لذلك في الحديث «اللهم لا تكلني لنفسي طرفة عين» (لا تكلني) لأنك لو وُكلت لنفسك طرفة عين زلت القدم والعياذ بالله.
إذا كان كذلك فإن حرم العبد التوفيق وخذل، لا يحرم العبد التوفيق ويخذل إلا بأسباب منه ? مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ?[النساء:79]، ومن السيئات أن تخذل ومنه ضعف العبادة ضعف والإقبال على الله جل وعلا، ضعف الاستمساك بالسنة، ضعف الاستمساك بالعلم، ضعف الاستمساك بهدي السلف الصالح أن يكون الدين عرضة للخصومات وعرضة للقيل والقال قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
والله الناس يشوفون الذين في القنوات الفضائية وهذا مع هذا، وهذا يطاق هذا، وهذا يرمي هذا يستمع بإنصات يحصل عنده تنقل وتقلب، لماذا؟ لأنك ليس عندك علم تحمي نفسك فيه وهؤلاء يأتون بشبه قيل وقال فلابد أن يقع، من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
هنا لابد من الاستمساك كما ذكرت لك بهذه الطريقة، والحذر من أسباب خذلان الله جل وعلا للعبد الإنابة إلى الله جل وعلا كثرة الدعاء، الإقبال على الله جل وعلا، البعد عن الفتن، طلب السلامة.
الأمور تشتبه عليك إذا اشتبه عليك الأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دلك على المخرج «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه» ما أدري، والله أنا ما أعرف هذا، لا تحتار، أترك الموضوع كله برمته، ثم ابحث عن الصواب؛ لكن هناك من يعرف الصواب ويعرف الغلط؛ لكن أنت اشتبه عليك فاترك، هذا هو طريق النجاة.
فإذن لابد من الإقبال على الله جل وعلا حتى يكون التفكير سليما وأن نحذر من الخذلان؛ لأن هذا له أثر كبير في التفكير الخاطئ.
من المؤثرات السلبية على التفكير السليم أو أشياء تجعل منهج التفكير: خاطئا تصديق الشائعات.
الناس مغرمون بالشائعات فإذا سمعوا خير ما أحد نشره؛ لكن إذا سمعوا شيء فيه ما فيه نشروه، الشائعات هذه كثيرة الانتشار وأكثر الشائعات لا صحة لها، والصحيح منها مبالغ فيه كما ذكرنا.
الشائعة ما حكمها محاضرات كثيرة هناك كتب ورسائل في الشائعات معروفة يمكن أن ترجعوا إليها؛ لكن من التأثيرات السَّلبية على التفكير الصحيح تصديق الشائعات، كما قال الله جل وعلا ?وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ?[النساء:82] يعني شائعة، ينشر الشائعات وهذا لا يصح، «من حدّث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبِين» تنشر الشائعات هذا يؤثر على تفكيرك، ثم بعد ذلك أنت تنشرها تصدقها، يعني مثل ما قال بعضهم يكذب الكذبة ثم إذا انتشرت رجعت إليه قال يمكن أن تكون صحيحة وهو أصلا الذي كذبها.
يقول أحدهم أظنه هتلر في ألمانيا يقول لوزير إعلامه يقول: اكذب الكذبة عشر مرات، رددها، اكذب الكذبة إعلامية عشر مرات فإنها ستصبح حقيقة، حتى أنا سأصدقها. وهذا صحيح في طبع الإنسان.
ويقولون أشعب قال للناس المكان الفلاني فيه دعوة شافهم كلهم سارعوا وكلهم راحوا فيه عزيمة وهو يحب أن يأكل مجانا، راح شاف الناس يروحون يروحون وهو معلّم عشرة لكن جاءت الشائعة قال والله يمكن صحيحة أروح أنا.
هذا تأثير الشائعة حتى على النفس ولذلك من الخلل في التفكير أن تصدق الشائعات، شرعا لا يجوز ولابد من التثبت ?إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا?[الحجرات:6] وفي القراءة الأخرى ?فَتَثَبَّتُوا?، البيان ?فَتَبَيَّنُوا?يعني أطلب البيان أطلب الحجة أطلب الدليل.
والآن يلفق أشياء على الناس لا حصر لها وكذب صراح.
من معالم الغلط في التفكير تحذر منه إذا أردت التفكير الصحيح، تحذر من شيء: وهو تأثير الشعارات والألفاظ الرنانة الطنانة كما يقال.
يقول بعض الفلاسفة: كم نفذت أمور هي من الخُرْقِ بما كان. يعني نفذت في الناس ومشت في الناس وآمنوا بها وصدقوها وعملوا بها أو عمل بها طائفة.
كم نفذت أمور هي من الخرق بما كان -يعني سيئة- في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
يأتي المفكر أو صاحب الدعوة أو صاحب السياسة أو صاحب الحزب أو إلى آخره فيريد التأثير عن أشياء، فيأتي بلفظ جميل حتى ينخدعوا باللفظ ولا ينتبهوا إلى ما تحته.
فإذن من أسباب التفكير الخاطئ الانخداع بالشعارات، والمؤمن العبرة عنده بحقائق الأمور لا بالشعارات، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماذا قال لنا في آخر الزمان؟ قال «يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» هل هذا الأمر للخمر فقط؟ ظاهر الحديث للخمر؛ لكن لماذا يخصّون الخمر بأنه يسمونها بغير اسمها، عندهم أشياء ثانية سموها بغير اسمها حتى تكون حلالا، كذلك سيسمون هذا وهذا وأشياء كثيرة.
اليوم هناك أشياء كثيرة المراد منها خلاف الشعار؛ لكن الشعار يأتي حتى يمشي ويروج، مثالها مثلا: الإصلاح، النهوض بالأمة، الوهابية، الجهاد، إصلاح المناهج، قضايا كثيرة، يقول ضبط أو المؤسسات الخيرية الحذر من تمول الإرهاب.
ألفاظ ظاهرها جميل، الإصلاح مطلوب، محاربة الفساد سواء أكان في الأمور السياسية أوفي الأمور الدعوية أو في الأمور العلمية أو في أي مجال من المجالات، الإصلاح مطلوب ?إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ?[هود:88]؛ لكن ما داخل هذه الكلمة؟ ما تحتها؟ الإصلاح كيف؟ تصلحون ماذا؟ بأي شيء؟ لو أتى البرنامج، ماذا تريدون؟ هنا يبين الطريق من الطريق، والناس ينخدعون باللفظ العام ويؤمنون به ويدافعون عنه والذي أورد هذه الألفاظ يريد منها أشياء غير ظاهرها.
إيش مثلنا؟ يقول لك إصلاح المناهج، إصلاح المناهج طيب، كون أنه مناهج تحتاج إلى تعديل، هذا أمر مطلوب، ما فيه شك أن المناهج التي ندرسها اليوم أو يدرسها طلابنا سواء في التعليم العام أو في الجامعات غير التي درست قبل ثلاثين سنة، هل معناه أن هذه أحسن من التي قبل ثلاثين سنة أو التي في ثلاثين سنة أحسن والتي قبل مائة سنة والتي قبل ألف سنة؟
مفهوم إصلاح المناهج مفهوم طيب في ظاهره، تعديلها؛ لكن ما داخله؟ هنا يأتي الكلام.
هناك دعوات مناهج المسلمين تدعو إلى الإرهاب، مناهج التعليم في المملكة العربية السعودية فيها كذا، ها دخلنا إلى في أن ما نحن عليه من الدين والصلاح والمناهج الشرعية إلى آخره أنن فيها أشياء يراد أن تُضعف أو أن تجتنب أو أنها بمجملتها يكون فيها كذا وكذا، إذن يكون فيه حذر.
مثل الجهاد، الجهاد شرعي مطلوب ومأمور به وسنام الإسلام الجهاد؛ لكن:
دخل في الجهاد قتل النفس.
دخل في الجهاد قتل الأطفال.
دخل في الجهاد قتل النساء.
دخل في الجهاد قتل المعصومين معصومي الدم.
دخل في الجهاد ما يضر بالأمة بكل أنواعها.
إذن هذا سُمي جهادا وحقيقته ليس كذلك، ليش؟ حتى من رغِب في الجهاد يدخل فيه منخدعا به.
مثل المؤسسات الخيرية، الهجمة عليها شديدة، كيف نفكر، هذه فيها دعم للإرهاب، طيب فيها خلل مالي، فيها كذا وكذا، طيب الخلل يصلح؛ لكن كم نسبة الخلل فيها واحد في المائة اثنين في المائة، كم نسبة الغلط، لكن كم نسبة الغلط؟ ما من عمل بشري إلا وفيه نسبة من الغلط.
فإذن اللفظ هنا يأتي بعض الناس أعوذ بالله هؤلاء يعملون كذا، والمؤسسات الخيرية فيها، ويطنطن ويأتي أيضا كلام في الصحف وكلام في وسائل وكأن الشر هنا، والحقيقة أن هذه الشعارات؛ لكن تحتها أمور سيئة.
نعم المؤمن الحكمة ضالته أين وجها فهو أحق بها، إذا كان فيه إصلاح في المؤسسات الخيرية مطلوب، إعادة تنظيمها مطلوب، ضبطها ماليا وضبطها إداريا وهيكلتها هذا مطلوب؛ لكن ليس معنى ذلك الاتهام، ليس معنى ذلك أننا نصدق ما يقال، فرق بين هذا وهذا.
فالمؤسسات تعمل عملا عظيما في الأمة، هذه الأمثلة لذلك.
من المؤثرات السلبية في منهج التفكير: الأخذ بالأشد والأقوى من الأقوال والأعمال على أنه الصواب والحق.
بعض الناس يفكر كيف أن الأقوى دائما من الأقوال هذا القوي، هذا الذي فعل، هذا الرجل، هذا الشجاع، أنه دائما هو الصواب، وليس كذلك.
القوة في موضعها محمودة والحكمة أو وضع الأمور في موضعها محمود بل تكون الحكمة في القوة والحكمة أحيانا في تمرير الأمور.
لما أتى عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية، قال عمر: يا رسول الله على ما نقبل الدنية في ديننا ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ هنا القوة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم حتى إن في الشروط فيها -كما قال عمر- دنية لكن المصلحة للأمة فيما أراده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه الأدرى بالمصالح حتى عمر على جلالة قدره وهو ثاني رجل في الأمة أبو بكر ثم عمر لكنه هنا نظر نظرا أراد الأقوى؛ لكن الحكمة كانت في خلاف ذلك.
كذلك لما جاءت حرب المرتدين الأمر انعكس، لما جاءت حروب الردة كان الأقوى من أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وكان الذي يريد اللين من؟ عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عمر قال: كيف تقاتلهم؟ فآل الأمر إلى قول عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ فلما رأيت أبا بكر انشر صدره للقتال علمت أنه الحق.
فإذن الإنسان قد يعتريه في مواقف قوة، هنا كيف تفكر؟ ليس الصواب في المنهج في التفكير أن القوة والشدة هي الصواب؛ بل في كل موضع يقول: هذا يعرف العقلاء الحكماء، يعرفه أهل الأمر أولي الأمر العلماء الراسخون، الذين مرت بهم تجارب إلى آخره.
فإذن المسألة لا تأخذ دائما بالشد من الفتاوى من الفتاوى أنها الصحيحة، أو أن الموقف القوي على أنه هو الصحيح، قد يكون صحيحا وقد يكون الحكمة بخلافه أو الصواب بخلافه، في الفتوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
تبين بهذا هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، إذا كان الأمر واضحا أنه إثما هذا يستثنى، إذا كان الأمر واضح أنه إثم هذا يستثنى؛ لكن إذا اختار بين أمرين يختار اليسر لأن هذا الدين يسر.
فإذن من المؤثرات على المنهج الصحيح في التفكير أن يأخذ المسلم بالأشد والأقوى والأغلظ على أن هذا هو الحق، ليس كذلك، الدين يسر «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» قد تكون القوة في الموقف مطلوبة كما ذكرنا وقد يكون اللين مطلوبا وكل في موضعه يحمد إذا تولاه من يحسن الأمر.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه الرشد والسداد، واجعلنا معهم من المتعاونين على البر والتقوى.
اللهم وفق علماءنا إلى ما فيه رضاك، وكن لهم على ما فيه الخير من القول والعمل.
اللهم وفق كل من عمل للإسلام إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واغفر لنا ولوالدينا ولمن له حق علينا ولأموات المسلمين إنك جواد كريم.
اللهم إن ذنوبنا كثيرة وأنت الغفار الرحيم، اللهم فاغفر جما، اللهم تجاوز عما تعلم ولا نعلم، وما عملناه فإن صفتك العفو والغفران وصفتك التقصير والذنب والعصيان.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء إنك جواد كريم، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، طهرنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
...تابع القراءة

أريد أن أتوب ولكن‏

الخميس، 8 أكتوبر 2009



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن الله أمر المؤمنين جميعاً بالتوبة : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور /31 .
وقسم العباد إلى تائب وظالم ، وليس ثم قسم ثالث البتة ، فقال عز وجل : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات /11 وهذا أوان بعد فيه كثير من الناس عن دين الله فعمت المعاصي وانتشر الفساد، حتى ما بقي أحد لم يتلوث بشيء من الخبائث إلا من عصم الله .
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فانبعث الكثيرون من غفلتهم ورقادهم، وأحسوا بالتقصير في حق الله ، وندموا على التفريط والعصيان ، فتوجهت ركائبهم ميممة شطر منار التوبة ، وآخرون سئموا حياة الشقاء وضنك العيش ، وهاهم يتلمسون طريقهم للخروج من الظلمات إلى النور .
لكن تعترض طريق ثلة من هذا الموكب عوائق يظنونها تحول بينهم وبين التوبة ، منها ما هو في النفس ، ومنها ما هو في الواقع المحيط .
ولأجل ذلك كتبت هذه الرسالة آملاً أن يكون فيها توضيح للبس وكشف لشبهة أو بيان لحكم ودحر للشيطان .
وتحتوي هذه الرسالة على مقدمة عن خطورة الاستهانة بالذنوب فشرحاً لشروط التوبة ، ثم علاجات نفسية ، وفتاوى للتائبين مدعمة بالأدلة من القرآن الكريم والسنة ، وكلام أهل العلم وخاتمة .
والله أسأل أن ينفعني وأخواني المسلمين بهذه الكلمات ، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة ، والله يتوب علينا أجمعين .
مقدمة في خطر الاستهانة بالذنوب
اعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) التحريم /8
ومنحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات - محتمل أن تكون الساعة الفلكية المعروفة ، أو هي المدة اليسيرة من الليل أو النهار ، من لسان العرب - عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتبت واحدة ) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209 . ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل .
ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً ، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً ، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب ، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر ، فيقول مثلاً : وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية . الأجانب هم ما سوى المحارم .
ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات ، حتى أن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها ؟ أهي كبيرة أم صغيرة ؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله :
- عن أنس رضي الله عنه قال : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) والموبقات هي المهلكات .
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي بيده فذبه عنه "
وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ( وفي رواية ) إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) رواه أحمد ، صحيح الجامع 2686-2687 .
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها ، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
ونقول لمن هذه حاله : لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت .
وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون ، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم .
إنها لمن يؤمن بقوله تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) الحجر /49 ، كما يؤمن بقوله : ( وأن عذابي هو العذاب الأليم ) الحجر /50 .
شروط التوبة ومكملاتها
كلمة التوبة كلمة عظيمة ، لها مدلولات عميقة ، لا كما يظنها الكثيرون ، ألفاظ باللسان ثم الاستمرار على الذنب ، وتأمل قوله تعالى : ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) هود /3 تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار .
ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط ، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث ، وهذا ذكر بعضها :
الأول : الإقلاع عن الذنب فوراً .
الثاني : الندم على ما فات .
الثالث : العزم على عدم العودة .
الرابع : إرجاع حقوق من ظلمهم ، أو طلب البراءة منهم .
وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح ، نسوقها مع بعض الأمثلة :
الأول : أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر ، كعدم القدرة عليه أو على معاودته ، أو خوف كلام الناس مثلاً .
فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس ، أو ربما طرد من وظيفته .
ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته ، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية ، أو أنها تضعف جسمه وذاكرته .
ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً .
ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه .
وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته ، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق ، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع ، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه ، بل لابد لمثل هذا من الندم والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف على فواتها ولمثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الندم توبة ) رواه أحمد وابن ماجه ، صحيح الجامع 6802 .
والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل ، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا لأربعة نفر ، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) رواه أحمد والترمذي وصححه صحيح الترغيب والترهيب 1/9 .
الثاني : أن يستشعر قبح الذنب وضرره .
وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية ، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل .
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها :
حرمان العلم والوحشة في القلب وتعسير الأمور ووهن البدن وحرمان الطاعة ومحق البركة وقلة التوفيق وضيق الصدر وتولد السيئات واعتياد الذنوب وهوان المذنب على الله وهوانه على الناس ولعنة البهائم له ولباس الذل والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة ومنع إجابة الدعاء والفساد في البر والبحر- وانعدام الغيرة وذهاب الحياء وزوال النعم ونزول النقم والرعب في قلب العاصي والوقوع في أسر الشيطان وسوء الخاتمة وعذاب الآخرة .
وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية ، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها :
أن يعتقد أن وزنها أخف .
لأن النفس تميل إليها أكثر ، والشهوة فيها أقوى .
لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها ، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز ، أسبابها حاضرة متوافرة .
لأن قرناءه وخلطاؤه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم .
لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية ، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد ، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي ، فأنشد أبو نواس :
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
الثالث : أن يبادر العبد إلى التوبة ، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة .
الرابع : أن يخشى على توبته من النقص ، ولا يجزم بأنها قد قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله .
الخامس : استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً ، كإخراج الزكاة التي منعت في الماضي ولما فيها من حق الفقير كذلك .
السادس : أن يفارق موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى .
السابع : أن يفارق من أعانه على المعصية وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه .
والله يقول : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف /67 . وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة ، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم .
وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي .
الثامن : إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار ، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل ، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها .
ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها ، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات .
التاسع : أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء وأن يحرص على حلق الذكر ومجالس العلم ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي .
العاشر : أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب .
الحادي عشر : أن تكون التوبة قبل الغرغرة ، وقبل طلوع الشمس من مغربها : والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ) رواه أحمد والترمذي ، صحيح الجامع 6132 . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم .
توبة عظيمة
ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن بريدة رضي الله عنه : أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني فرده ، فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، فقال : ( أتعلمون بعقله بأساً ؟ أتنكرون منه شيئاً ؟ ) قالوا : ما نعلمه إلا وفيّ العقل ، من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضاً ، فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، قال : فجاءت الغامدية ، فقالت : يا رسول الله إني زنيت فطهرني ، وإنه ردها ، فلما كان الغد ، قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فوالله إني لحبلى ، قال : ( أما لا ، فاذهبي حتى تلدي ) ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا رسول الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها ، فقال: ( مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس {وهو الذي يأخذ الضرائب } لغفر له ) رواه مسلم . ثم أمر بها فصلى عليها ، ودفنت .
وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ! فقال : ) لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم ، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل . رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/325 .
التوبة تمحو ما قبلها
وقد يقول قائل : أريد أن أتوب ولكن من يضمن لي مغفرة الله إذا تبت وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت ؟
فأقول له ما داخلك من المشاعر داخل نفوس أناس قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله .
الأولى : روى الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها : " فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يديّ قال : مالك يا عمرو ؟ قال : قلت أردت أن أشترط ، قال ( تشترط بماذا؟) قلت : أن يغفر لي . قال : ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) .
والثانية : وروى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : " إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن ، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ) الفرقان /68 . ونزل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) .
هل يغفر الله لي
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته ، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا ارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة .
وأقول لك أيها الأخ الكريم : هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه قد بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة ، وسرق عدة سرقات ثم يقول : تبت إلى الله عز وجل ، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الاثنين والخميس ، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة ؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات ، فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل : ( قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) الزمر الآيتان 53،54
فهذا الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان .
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشيء عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً .
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً .
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب هو الرجاء ثالثاً .
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً .
ونجيب عن كل منها .
فأما الأول : فيكفي في تبيانه قول الله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) الأعراف /56 .
وأما الثاني : فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح : ( قال تعالى من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئاً ) رواه الطبراني في الكبير والحاكم ، صحيح الجامع 4330 . وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة .
وأما الثالث : فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي ، صحيح الجامع 4338 .
وأما الرابع : فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجه ، صحيح الجامع 3008 .
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث :
توبة قاتل المائة
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدّل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط , فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه . وفي رواية في الصحيح ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) .
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب الله عليه ، فلم اليأس ؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك ، تأمل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان /68 70 .
ووقفة عند قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان /70 تبين لك فضل الله العظيم ، قال العلماء التبديل هنا نوعان :
الأول : تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً وبالزنا عفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا .
والثاني : تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، وتأمل قوله تعالى : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية ، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته ، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل ؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل :
عن عبد الرحمن بين جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي طرق أخرى " جاء شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدّعم على عصا حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة أي صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها ، وفي رواية ، إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم أي أهلكتهم فهل لذلك من توبة ؟ قال : ( فهل أسلمت ) قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . قال : ( تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ) قال : وغدراتي وفجراتني ، قال : ( نعم ) قال : الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى. قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة ، المجمع 1/36 وقال المنذري في الترغيب إسناده جيد قوي 4/113 وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح 4/149.
وهنا قد يسأل تائب ، فيقول : إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح .
وإليك الجواب : عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتِاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) رواه البخاري .
فهذه الذنوب تغفر ، وهذه السيئات تبدل حسنات ، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة ، فماذا بقي !
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً ؟ .
فالجواب : ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان .
الأول : عمل القلب بالندم والعزم على عدم العودة ، وهذه تكون نتيجة الخوف من الله .
الثاني : عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها :
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) رواه أصحاب السنن ، صحيح الترغيب والترهيب 1/284 . ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران /135 .
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب وهذا ملخصها :
- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ( لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء )
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم .
- يقوم فيصلي ركعتين .
- لا يسهو فيهما .
- لا يحدث فيهما نفسه .
- يحسن فيهن الذكر والخشوع .
- ثم استغفر الله .
والنتيجة :
غفر له ما تقدم من ذنبه .
إلا وجبت له الجنة . صحيح الترغيب 1/ 94 ، 95
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات ، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ، قال بعدها فعلمت لذلك أعمالاً أي صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع أي لباس من حديد يرتديه المقاتل ضيقة ، قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض ) رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2192 . فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية ، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح ، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة .
عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت ، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، ثم قال : ( ردوه علي ) ، فردوه عليه فقرأ عليه : ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .
فقال معاذ وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال : ( بل للناس كافة ) رواه مسلم .
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما أن علموا بشيء من التغير عندي حتى شنوا عليّ حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل ؟!
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين وليميز الله الخبيث من الطيب .
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت ، وهؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم ، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك ، وهذه أزمة عارضة ، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر !!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس ؟
والله يقول : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس ) الناس /1-6 .
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء ؟!
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة ولقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة .
هنالك : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم /27 .
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة ، ذكريات .. توسلات .. صور .. ورسائل .. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل ، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقاطعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله ، أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول فيها : " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك " يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر .
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب : " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور أي الفرن فسجرتها أي أحرقتها .
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر أو أنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة . ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون )
إنهم يهددونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهددونني بإعلان فضائحي بين الناس ، ونشر أسراري على الملأ ، إن عندهم صوراً ووثائق ، وأنا أخشى على سمعتي ، إني خائف !!
ونقول : جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها ، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته .
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات ، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً ، لكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم ، وقل حسبي الله ونعم الوكيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال : ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ) رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 4582 .
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً : لقد سجلت مكالمتك ولديّ صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك !! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه .
وانظر إلى حرب أولياء الشياطين لمن تاب من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية ، ولكن الله مع المتقين ، ومع التائبين ، وهو ولي المؤمنين ، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم ، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً ، واعلم أن مع العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً .
وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول .
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنويّ الفدائي الذي كان يهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً . " كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة ، حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفت ، فقالت : مرثد ؟ فقلت: مرثد ، قالت : مرحباً وأهلاً ، هلم فبت عندنا الليلة ، قلت : يا عناق حرم الله الزنا ، قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ( وهو جبل معروف عند أحد مداخل مكة ) فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلاً ثقيلاً ، حتى انتهيت إلى الأذخر ففككت عنه أكبله ( أي قيوده ) فجعلت أحمله ويُعييني ( أي يرهقني) حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) النور /3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها ) صحيح سنن الترمذي 3/80 .
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم ، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون ؟
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقة هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة ، يوم الخزي الأكبر ، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين ، ولكنها على رؤوس الأشهاد ، أما الخلق كلهم من الملائكة والجن والإنس ، من آدم وحتى آخر رجل .
فهلم إلى دعاء إبراهيم :
( ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء /87-89
وتحصن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين .
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول : إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله ، ولكن ذنوبي تطاردني ، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي ، ويقض مضجعي ، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي ، فما السبيل إلى إراحتي .
فأقول لك أيها الأخ المسلم ، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة ، وهذا هو الندم بعينه ، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء ، رجاء أن يغفر الله لك ، ولا تيأس من روح الله ، ولا تقنط من رحمة الله ، والله يقول : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) الحجر /56 .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير .
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة ، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب ، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله .
هل اعترف ؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول : أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب ؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ ؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز ، والمرأة ، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان .
فأقول لك أيها الأخ المسلم : اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم ، الذي ارتضاه الله ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) البقرة /186 . وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً ، وفي دعاء سيد الاستغفار: ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ) أي أعترف لك يا الله .
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى ، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران .. إلى آخر أركان المهزلة .
بل إن الله يقول : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط .
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف ، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه ، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله ، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده ، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً .
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه ، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد ، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت ، كما يخطر في أذهان البعض .
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها :
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل ، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل ، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً ، وتقام عليك الحدود ، ثم ينظر في أمرك ، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام ، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه .
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول : أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة ، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة ، والله يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) النحل /43 وقال : ( الرحمن فاسأل به خبيراً ) الفرقان /59 .
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي ، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس ، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى ، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى ، وهذه مسألة تعبدية ، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم . والله المستعان .
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول : أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة ، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب ، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها ، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها ، فهل من إجابات على هذه التساؤلات ؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل .
س1 : إنني أقع في الذنب فأتوب منه ، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه ! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده ؟
جـ1 : ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب ، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة .
س2 : هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر ؟
جـ2 : تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر ، إذا لم يكن من النوع نفسه ، ولا يتعلق بالذنب الأول ، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة ، والعكس صحيح ، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس ، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة ، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه . راجع المدارج.
س3 : تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها ، فماذا أفعل الآن ؟
جـ3 : أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها ، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار ، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه .
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام ، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده ، من غير عذر وهذه كفارة التأخير ، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان .
مثال : رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً ، وبعد سنين تاب إلى الله ، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام ، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية .
مثال آخر : امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها ، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها ، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه ، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام ، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر .
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة ، وحق للفقير من جهة أخرى . للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383 .
س4 : إذا كانت السيئة في حق آدميّ فكيف تكون التوبة ؟
جـ4 : الأصل في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت لأخيه عنده مظلمة ، من عرض أو مال ، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه) رواه البخاري فيخرج التائب من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم ، فإن سامحوه وإلا ردها .
س5 : وقعت في غيبة شخص أو أشخاص ، وقذفت آخرين بأمورٍ هم بريئون منها فهل يشترط إخبارهم بذلك مع طلب المسامحة وإذا كان لا يشترط فكيف أتوب ؟!
جـ5 : المسألة هنا تعتمد على تقدير المصالح والمفاسد .
فإن كان إذا أخبرهم بم اغتابهم أو قذفهم لا يغضبون منه ولا يزدادون عليه حنقاً وغماً صارحهم وطلب منهم المسامحة ولو بعبارات عامة ، كأن يقول إني أخطأت في حقك في الماضي ، أو ظلمتك بكلام ، وإني تبت إلى الله فسامحني ، دون أن يفصل فلا بأس بهذا .
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم أو قذفهم حنقوا عليه وازدادوا غماً وغيظاً وربما يكون هذا هو الغالب أو أنه إذا أخبرهم بعبارات عامة لم يرضوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية له ، فإنه حينئذ لا يجب عليه إخبارهم أصلاً لأن الشريعة لا تأمر بزيادة المفاسد ، وإخبار شخص بأمور كان مستريحاً قبل سماعها على وجه يسبب البغضاء وينافي مقصد الشريعة في تأليف القلوب والتحاب بين المسلمين ، وربما يكون الإخبار سبباً لعداوة لا يصفو بعدها قلب المغتاب أبداً لمن اغتابه ، وفي هذه الحالة يكفي التوبة أمور منها :
1- الندم وطلب المغفرة من الله والتأمل في شناعة هذه الجريمة واعتقاد تحريمها .
2- أن يكذب نفسه عند من سمع الغيبة ، أو القذف ويبرئ المقذوف.
3- أن يثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمته فيها ، ويذكر محاسنه .
4- أن يدافع عمن اغتابه ، ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه .
5- أن يستغفر له بظهر الغيب المدارج 1/291 ، والمغني مع الشرح 12/78
ولاحظ أيها الأخ المسلم الفرق بين الحقوق المالية وجنايات الأبدان ، وبين الغيبة والنميمة ، فالحقوق المالية يستفيد أهلها إذا أخبروا بها ، وردت إليهم ، ويسرون بذلك ، ولذلك لا يجوز كتمها بخلاف الحقوق التي في جانب العِرض ، والتي لا تزيد من يُخبر بها إلا ضرراً وتهييجاً .
س6 : كيف يتوب القاتل المتعمد ؟
جـ6 : القاتل المتعمد عليه ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق القتيل ، وحق الورثة .
فحق الله لا يُقضى إلا بالتوبة .
حق الورثة أن يسلم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم ، إما بالقصاص أو بالدية أو العفو .
ويبقى حق القتيل الذي لا يمكن الوفاء به في الدنيا ، وهنا قال أهل العم إذا حسنت توبة القاتل ، فإن الله يرفع عنه حق القتيل ويعوض القتيل يوم القيامة خيراً من عنده عز وجل ، وهذا أحسن الأقوال . المدارج 1/299 .
س7 : كيف يتوب السارق ؟
جـ7 : إذا كان الشيء عنده الآن رده إلى أصحابه .
وإن تلف أو نقصت قيمته بالاستعمال أو الزمن وجب عليه أن يعوضهم عن ذلك ، إلا إذا سامحوه فالحمد لله .
س8 : أشعر بالحرج الشديد إذا واجهت من سرقت منهم ، ولا أستطيع أن أصارحهم ، ولا أن أطلب منهم المسامحة فكيف أفعل ؟
جـ8 : لا حرج عليك في البحث عن طريق تتفادى فيه هذا الإحراج الذي لا تستطيع مواجهته ، كأن ترسل حقوقهم مع شخص آخر ، وتطلب عدم ذكر اسمك ، أو بالبريد ، أو تضعها خفية عندهم، أو تستخدم التورية وتقول هذه حقوق لكم عند شخص ، وهو لا يريد ذكر اسمه ، والمهم رجوع الحق إلى أصحابه .
س9 : كنت أسرق من جيب أبي خفية ، وأريد الآن أن أتوب ولا أعلم كم سرقت بالضبط ، وأنا محرج من مواجهته ؟
جـ9 : عليك أن تقدر ما سرقته بما يغلب على ظنك أنه هو أو أكثر منه ، ولا بأس أن تعيده إلى أبيك خفية كما أخذته خفية .
س10 : سرقت أموالاً من أناس وتبت إلى الله ، ولا أعرف عناوينهم ؟
وآخر يقول أخذت من شركة أموالاً خلسة ، وقد أنهت عملها وغادرت البلد ؟
وثالث يقول سرقت من محل تجاري سلعاً ، وتغير مكانه ولا أعرف صاحبه ؟
جـ10 : عليك بالبحث عنهم على قدر طاقتك ووسعك ، فإذا وجدتهم فادفعها إليهم والحمد لله ، وإذا مات صاحب المال فتعطى لورثته ، وإن لم تجدهم على الرغم من البحث الجاد فتصدق بهذه الأموال بالنيابة عنهم ، وانوها لهم ولو كانوا كفاراً لأن الله يعطيهم في الدنيا ولا يعطيهم في الآخرة .
ويشبه هذه المسألة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في المدراج 1/388 أن رجلاً في جيش المسلمين غل ( أي سرق ) من الغنيمة ، ثم تاب بعد زمن ، فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه ، وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا ؟ فأتى هذا التائب حجاج بن الشاعر يستفتيه فقال له حجاج : يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم ، فإن الله يوصل ذلك إليهم ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إليّ من نصف ملكي ، وهناك فتوى مشابهة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قريبة من هذه قصة مذكورة في المدارج .
س11 : غصبت مالاً لأيتام وتاجرت به وربحت ، ونما المال أضعافاً وخفت من الله فكيف أتوب ؟
جـ11 : للعلماء في هذه المسألة أقوال أوسطها وأعدلها أنك ترد رأس المال الأصلي للأيتام ، زائداً نصف الأرباح ، فتكون كأنك وإياهم شركاء في الربح مع إعادة الأصل إليهم .
وهذه رواية عن الإمام أحمد ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم رحمه الله ( المدراج 1/392 )
وكذلك لو غصب سائمة من إبل أو غنم فنتجت أولاداً فهي ونصف أولادها للمالك الأصلي ، فإن ماتت أعطى قيمتها مع نصف النتاج إلى مالكها .
س12 : رجل يعمل في الشحن الجوي وتتخلف عندهم بضائع أخذ منها مسجلاً خلسة وبعد سنوات تاب فهل يُرجع المسجل نفسه أو قيمته أو شبيهاً به ، علماً بأن هذا النوع قد انتهى من السوق ؟
جـ12 : يرجع المسجل نفسه زائداً عليه ما نقص من قيمته لقاء الاستعمال أو تقادم الزمن ، وذلك بطريقة مناسبة دون أن يؤذي نفسه ، فإن تعذر ، تصدق بقيمته نيابة عن صاحبه الأصلي .
س13 : كان عندي أموال من الربا ولكني أنفقتها كلها ، ولم يبق عندي منها شيء ، وأنا الآن تائب فماذا يلزمني ؟
جـ13 : لا يلزمك إلا التوبة إلى الله عز وجل توبة نصوحاً والربا خطير ، ولم يؤذن بحرب أحد في القرآن الكريم إلا أهل الربا وما دامت الأموال الربوية قد ذهبت كلها ، فليس عليك من جهتها شيء الآن .
س14 : اشتريت سيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام ، وهي موجودة عندي الآن فكيف أفعل ؟
جـ14 : من اشترى شيئاً لا يتجزأ كالبيت أو السيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يخرج ما يقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدق به تطييباً لتلك الممتلكات ، فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب ردّ مثله إليهم على التفصيل السابق .
س15 : ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان ، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال ؟
جـ15 : من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة ، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده ، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام ، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم .
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام ، وأراد أن يتوب فإن كان :
1- كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا .
2- وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب .
س16 : شخص يأخذ الرشاوي ، ثم هداه الله إلى الاستقامة ، فماذا يفعل بالأموال التي أخذها من الرشوة ؟
جـ16 : هذا الشخص لا يخلو من حالتين :
1- إما أن يكون أخذ الرشوة من صاحب حق مظلوم اضطر أن يدفع الرشوة ليحصل على حقه لأنه لم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة ، فهنا يجب على هذا التائب أن يرد المال إلى الراشي صاحب الحق لأنه في حكم المال المغصوب ولأنه ألجأه إلى دفعه بالإكراه .
2- أن يكون أخذ الرشوة من راش ظالم مثله تحصل عن طريق الرشوة على أشياء ليست من حقه ، فهذا لا يُرجع إليه ما أخذه منه ، وإنما يتخلص التائب من هذا المال الحرام في وجوه الخير كإعطائه للفقراء مثلاً ، كما يتوب مما تسبب فيه من صرف الحق عن أهله .
س17 : عملت أعمالاً محرمة وأخذت مقابلها أموالاً فهل يجب عليّ وقد تبت إرجاع هذه الأموال لمن دفعها إليّ ؟
جـ17 : الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة ، أو يقدم خدمات محرمة ، ويأخذ مقابلاً أو أجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يعيده إلى من أخذه منه .
فالزانية التي أخذت مالاً على الزنا لا تعيده إلى الزاني إذا تابت ، والمغني الذي أخذ أموالاً على الغناء المحرم لا يعيده إلى أصحاب الحفلة إذا تاب ، وبائع الخمر أو المخدارت لا يعيدها إلى من اشتروها منه إذا تاب ، وشاهد الزور الذي أخذ مقابلاً لا يعيد المال من استخدمه لشهادة الزور وهكذا ، والسبب أنه إذا أرجع المال للعاصي الذي دفعه فإنه يكون قد جمع له بين العِوض الحرام والمُعوَّض بالتخلص منه ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم . كما في المدارج 1/390 .
س18 : هناك أمر يقلقني ويسبب لي إرهاقاً وأرقاً ، وهو أني وقعت في الفاحشة مع امرأة فكيف أتوب ، وهل يجوز لي أن الزواج منها لستر القضية ؟
وآخر يسأل أنه وقع في الفاحشة في الخارج ، وأن المرأة حملت منه فهل يكون هذا ولده ، وهل يجب عليه إرسال نفقة الولد .
جـ18 : لقد كثرت الأسئلة عن الموضوعات المتعلقة بالفواحش كثرة تجعل من الواجب على المسلمين جميعاً إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاحها على هدي الكتاب والسنة وخصوصاً في مسائل غض البصر وتحريم الخلوة ، وعدم مصافحة المرأة الأجنبية والالتزام بالحجاب الشرعي الكامل وخطورة الاختلاط ، وعدم السفر إلى بلاد الكفار والاعتناء بالبيت المسلم والأسرة المسلمة والزواج المبكر وتذليل صعوباته .
أما بالنسبة إلى السؤال فمن فعل الفاحشة فلا يخلو من حالتين :
1- إما أنه زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهر مثلها ، عوضاً عما ألحق بها من الضرر ، مع توبته إلى الله توبة نصوحاً ، وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام ، أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه . انظر المدارج 1/366
2- أن يكون قد زنى بها برضاها ، فهذا لا يجب عليه إلا التوبة ، ولا يُلحق به الولد مطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا ينسب لأمه ، ولا يجوز إلحاقه بنسب الزاني .
ولا يجوز للتائب الزواج منها لستر القضية والله يقول : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) التوبة /3 .
ولا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا ، ولو كان منه، كما لا يجوز العقد على امرأة لا يدرى أهي حامل أم لا .
أما إذا تاب هو وتابت المرأة توبة صادقة وتبين براءة رحمها ، فإنه يجوز له حينئذ أن يتزوج منها ، ويبدأ معها حياة جديدة يحبها الله .
س19 : لقد حصل والعياذ بالله أني ارتكبت الفاحشة وعقدت على المرأة الزانية ، وقد صار لنا سنوات وقد تبنا أنا وهي إلى الله توبة صادقة فماذا يجب عليّ ؟
جـ19 : ما دامت التوبة قد صحت من الطرفين فعليكما إعادة العقد بشروطه الشرعية من الولي والشاهدين ، ولا يلزم أن يكون ذلك في المحكمة بل لو حصل في البيت لكان كافياً .
س20 : امرأة تقول إنها تزوجت من رجل صالح وقد فعلت أموراً لا ترضي الله قبل زواجها ، وضميرها يؤنبها الآن ، وتسأل هل يجب عليها إخبار زوجها بما حصل منها في الماضي ؟
جـ20 : لا يجب على أيٍّ من الزوجين إخبار الآخر بما فعل في الماضي من المنكرات ، ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وتكفيه التوبة النصوح .
وأما من تزوج بكراً ثم تبين له عند الدخول بها أنها ليست كذلك لفاحشة ارتكبتها في الماضي ، فإنه يحق له أخذ المهر الذي أعطاها ويفارقها ، وإن رأى أنها تابت فستر الله عليها وأبقاها فله الأجر والمثوبة من الله .
س21 : ماذا يجب على التائب من فاحشة اللواط ؟
جـ21 : الواجب على الفاعل والمفعول به التوبة إلى الله توبة عظيمة ، فإنه لا يُعلم أن الله أنزل أنواعاً من العذاب بأمة كما أنزله بقوم لوط لشناعة جريمتهم فإنه :
1- أخذ أبصارهم فصاروا عمياناً ، يتخبطون كما قال تعالى : ( فطمسنا أعينهم )
2- أرسل عليهم الصيحة .
3- قلب ديارهم ، فجعل عاليها سافلها .
4- أمطرهم بحجارة من سجيل منضود ، فأهلكهم عن بكرة أبيهم .
ولذلك كان الحد الذي يقام على مرتكب هذه الفاحشة القتل محصناً أو غير محصن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في إرواء الغليل .
س22 : تبت إلى الله ولديّ أشياء محرمة كأدوات موسيقية وأشرطة وأفلام ، فهل يجوز لي بيعها خصوصاً وأنها تساوي مبلغاً كبيراً ؟
جـ22 : لا يجوز بيع المحرمات وثمن بيعها حرام ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئاً حرك ثمنه ) رواه أبو داود وهو حديث صحيح . وكل ما تعلم أن غيرك سيستخدمه في الحرام فلا يجوز لك بيعه إياه، لأن الله نهى عن ذلك فقال : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومهما خسرت من مال الدنيا فما عند الله خير وأبقى ، وهو يعوضك بمنه وفضله وكرمه .
س23 : كنت إنساناً ضالاً أنشر الأفكار العلمانية ، وأكتب القصص والمقالات الإلحادية ، وأستخدم شعري في نشر الإباحية والفسوق ، وقد تداركني الله برحمته ، فأخرجني من الظلمات إلى النور وهداني فكيف أتوب ؟
جـ23 : هذه والله النعمة الكبرى والمنة العظمى ، وهي الهداية فاحمد الله عليها ، واسأل الله الثبات والمزيد من فضله .
أما من كان يستخدم لسانه وقلمه في حرب الإسلام ونشر العقائد المنحرفة أو البدع المضلة والفجور والفسق فإنه يجب عليه الآتي :
أولاً : أن يعلن توبته منها جميعاً ، ويُظهر تراجعه على الملأ بكل وسيلة وسبيل يستطيعه حتى يُعذر فيمن أضلهم ، ويبين الباطل الذي كان لئلا يغتر من تأثر به من قبل ، ويتتبع الشبهات التي أثارها والأخطاء التي وقع فيها فيرد عليها ، ويتبرأ مما قال وهذا التبيين واجب من واجبات التوبة ، قال تعالى : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم ) البقرة /160 .
ثانياً : أن يسخر قلمه ولسانه في نشر الإسلام ، ويوظف طاقته وقدراته في نصر دين الله ، وتعليم الناس الحق والدعوة إليه .
ثالثاً : أن يستخدم هذه الطاقات في الرد على أعداء وفضحهم وفضح مخططاتهم ، كما كان يناصرهم من قبل ويفند مزاعم أعداء الإسلام، ويكون سيفاً لأهل الحق على أهل الباطل ، وكذلك كل من اقنع شخصاً ولو في مجلس خاص بأمر محرم كجواز الربا ، وأنه فوائد مباحة ، فإنه ينبغي عليه أن يعود ويبين له كما أضله حتى يكفّر عن خطيئته والله الهادي .
وختاماً :
يا عبد الله فتح الله باب التوبة فهلا ولجت ( إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عرضه مسيرة سبعين عاماً ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ) . رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2177 .
ونادى الله ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم . فهلا استغفرت .
والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، والله يحب الإعتذار فهلا أقبلت .
فلله ما أحلى قول التائب ، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني .
أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه .
وتأمل هذه القصة ودلالتها في موضع التوبة :
روي أن أحد الصالحين كان يسير في بعض الطرقات فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ودموعه على خديه ، فخرجت أمه بعد حين ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي أين ذهبت عني ومن يؤويك سواي ، ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت !!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) رواه مسلم.
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟
والله يفرح إذا تاب العبد إليه ، ولن نعدم خيراً من رب يفرح ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض ، نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فأوى إلى ظل شجرة ، فوضع رأسه فنام نومة تحتها ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها ، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً ، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً ، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فينما هو كذلك ، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده ، تجر خطامها ، عليها زاده طعامه وشرابه ، فأخذ بخطامها ، فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته وزاده ) السياق مجموع من روايات صحيحة ، انظر ترتيب صحيح الجامع 4/368 .
واعلم يا أخي ، أن الذنب يُحدث للتائب الصادق انكساراً وذلة بين يدي الله ، وأنين التائبين محبوب عند رب العالمين .
ولا يزال العبد المؤمن واضعاً ذنوبه نُصب عينيه فتُحدث له انكساراً وندماً ، فيعقب الذنب طاعات وحسنات كثيرة حتى أن الشيطان ربما يقول : يا ليتني لم أوقعه في هذا الذنب ، ولذلك فإن بعض التائبين قد يرجع بعد الذنب أحس مما كان قبله بحسب توبته .
والله لا يتخلى عن عبده أبداً إذا جاء مقبلاً عليه تائباً إليه .
أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب ، ويلبسه أحسن الثياب ، ويربيه أحسن التربية ، ويعطيه النفقة ، وهو القائم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه يوماً في حاجة ، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وكتفه وشد وثاقه ، ثم ذهب إلى بلاد الأعداء ، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه ، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لواعج الحسرات ، وتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه من النعيم .
فينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد ذبحه في نهاية المطاف ، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريباً ، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ، أنظر إلى ولدك وما هو فيه والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه وعدوه يشتد في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به .
فهل تقول إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها . إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه ، يقول : يا رب ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا معين له سواك ، مسكينك وفقيرك وسائلك ، أنت معاذه، وبك ملاذه ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، فهيا إلى فعل الخيرات ، وكسب الحسنات ، ورفقة الصالحين ، وحذار من الزيغ بعد الرشاد ، والضلالة بعد الهداية والله معك .








...تابع القراءة